أقلام

عبور (٢)

السيد فاضل آل درويش

ورد عن الإمام الحسن العسكري (ع): (إنكم في آجال منقوصة وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيرًا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع)(بحار الأنوار ج ٥ ص ٣٧٢).

هذه التحفة التوعوية تحمل بشائر الأمل والطموح وترفع الهمة والإرادة عند الفرد لتكون بمستوى التحديات والمسؤوليات، فنحيا أعمارنا على بصيرة ووضوح بطريق الخير الذي نسلكه وموارد الأذى والضرر الذي نحذره ونتجنّبه، فكما أن الصحة الوقائية تشمل كل التوجيهات للحصول على سلامة الأبدان والتحذير من عوامل الاعتلال والمرض، فكذلك الأمر يشمل الأصل في الخُطى والعمل المثابر من خلال الوعي بقضية محدودية الأعمار وما يستوجب ويتفرّع على هذه الحقيقة الناصعة من اغتنام الأوقات وانتهاز الفرص وصنعها، وفي المقابل فهناك عوامل هدم علينا الحذر منها كالاغترار بالقدرات والالتصاق بالمظاهر المادية التي سنرحل عنها يومًا ما، وكل حياة يعقبها الموت والفناء فهي قصيرة بهذا المعنى ولا بد من تحويل عدّاد الأيام إلى مراحل نتنقّل من واحدة إلى الأخرى في سبيل بلوغ النهايات المرجوة، وخصوصًا أن المفهوم الديني والقرآني للحياة الدنيوية هي كونها مزرعة يبذر فيها المرء الأعمال الصالحة ليجني ثمار أفعاله في يوم الحساب، حيث يكون في عالم الآخرة التمايز والتباين بحسب وعي الإنسان ويقظته وهمته في ميدان العمل.

وهذه الحكمة من الإمام العسكري (ع) تنوّر العقول وتدب في النفوس بريق الأمل والتحرّك الفاعل، بحيث يكون هناك مقياس ومعيار نعتمد عليه في محاسبة أنفسنا والتعرف على أوجه التقصير والخطأ في مختلف جوانب أحاديثنا وتصرفاتنا، فهذا العمر المتاح لنا هو مزرعة علينا أن نحسن زراعتها والاهتمام بها حتى نتحصّل على مرجونا وهو النجاة من العقاب الألية للآثمين، فهناك من يزرع التفريط والخسارة والندامة وعض الأنامل بعد حياة اللهو والفراغ، وآخر يزرع الغبطة والمسرّة وبياض الوجه يوم يرى في صحيفة أعماله ما قدّمت يداه في حياة العمل الجدّي، والاختيار والقرار بيدنا فنحن من نصنع حياة أبدية تتناسب مع كرامتنا وكمالنا.

يصوّر الإمام (ع) أعمالنا وكل ما يصدر منا في هذه الحياة كالبذرة التي تنبت على أرض الواقع والحقيقة، وكل كلمة صادقة أو عمل خير – مع تعدد سبله – تؤسس لفرحة حقيقية في يوم القيامة بعد أن تتجلّى قيمتها، فطوبى لذلك الإنسان الذي لم يتوانَ عن عمل الخير والاستمرارية في إتيان الصالحات وتنزيه نفسه عن الموبقات وموارد النقص والعيب، وفي ذلك اليوم العظيم عندما تُنصب موازين العدالة الإلهية يُغبط ويُكبر ويُعظّم ذلك المؤمن الذي نصب جهده في طريق العمل الصالح.

وآه ثم آه ممن كتب بيده لنفسه مصيرًا قاتمًا واستحقاق عذاب أليم بسبب ما ارتكبه من رذائل أخلاقية كالغيبة والكذب والشهوات المحرّمة، سيحصد الندامة و الحسرة في يوم لا ينفع معه إلا من أتى بقلب سليم وعمل صالح، فهل من معتبر يعيد ترتيب أوراقه وحساباته وعلاقاته بناءً على حقيقة الدنيا الفانية دون أن يخرّب آخرته؟!

إن الاستقامة والتزيّن بالأخلاق الرفيعة وطهارة النفس من المشاعر السلبية استثمار حقيقي سيجني المرء حصاده يوم تعرض صحائف الأعمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى