أقلام

كتاب سباحة في بحر الوجود: السؤال، المآل، الجلال

د. حجي الزويد

يمثل هذا الكتاب الصادر حديثًا للأستاذ فاضل عباس الجميعي إضافة نوعية إلى المكتبة العربية، لا من حيث حجم مادته فقط، بل من حيث عمق الطرح، وشجاعة الدخول في منطقة شائكة هي فلسفة الوجود. من يقرأ هذا العمل يجد نفسه أمام جهد تأليفي طويل المدى، ومشروع فلسفي يهدف إلى إعادة إحياء السؤال الوجودي في فضائنا الثقافي، بلغة واضحة، ومنهجية مترابطة.

الكتاب صادر عن دار قنديل للنشر والتوزيع بغداد – شارع المتنبي

الكتاب قدّمه البروفسور رضي حسن المبيوق، وهو أستاذ في قسم علم النفس التربوي بجامعة شرق أيوا في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن المهتمين بقضايا المعرفة.

تقديم البروفسور رضي المبيوق أضفى بعدًا إضافيًّا على الكتاب، ففي مقدمته عبّر عن تقديره لهذا العمل، مؤكدًا أنه ليس مجرد مؤلف عادي بل إسهام علمي بارز في ساحة الفكر الفلسفي يليق بباحث يغامر بالدخول في فضاءات الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة، وهي ميادين لطالما شكلت تحديًا للفكر الإنساني عبر التاريخ. هذا التقديم يهيئ القارئ لقراءة الكتاب بوعي كامل بأهمية التجربة الفكرية التي سيخوضها.

يأتي هذا العمل الفلسفي الضخم في وقت تتعاظم فيه الحاجة إلى قراءة جديدة للوجود، إذ يعيش الإنسان المعاصر صراعًا بين أسئلة قديمة وأزمات حديثة. الكتاب الذي بين أيدينا ليس مجرد تأملات عابرة في الفلسفة، بل هو بناء فكري متكامل موزع على ثمانية وستين فصلًا تشكل خارطة معرفية واسعة تبحر بالقارئ في محيط الفكر الماورائي والوجودي.

لماذا تقرأ هذا الكتاب؟

قراءة هذا الكتاب رحلة في حد ذاتها. فمن خلال صفحاته، يخوض القارئ في بحر من الأسئلة التي تفتح آفاقًا جديدة للتفكير: ما غاية وجود الإنسان؟ ما العلاقة بين المادة والمعنى؟ كيف نفهم الخير والشر؟ هل الحرية قدر محتوم أم اختيار مسؤول؟ مثل هذه الأسئلة لا تبحث عن جواب نهائي، بقدر ما تدعو القارئ إلى مشاركة الكاتب في السباحة المستمرة.

كما أن هذا الكتاب يمثل فرصة للعودة إلى الفلسفة كجزء أصيل من ثقافتنا العربية والإسلامية. إذ لطالما كان للفلاسفة المسلمين مثل ابن سينا والفارابي نصيب كبير في النقاش الوجودي. وهنا يأتي كتاب الجميعي ليعيد وصل ما انقطع، ويثبت أن الفلسفة ليست غريبة عن ثقافتنا، بل جزء من عمقها.

الفلسفة والسؤال الوجودي:

منذ البداية، يضع الكاتب القارئ أمام سؤال وجودي أصيل: ما هو الوجود؟ كيف نفهمه؟ وكيف ننخرط في البحث عنه؟ الفلسفة بطبيعتها لا تمنح أجوبة جاهزة، بل تستنفر العقل نحو التساؤل والتفكير المستمر. ومن هنا جاء اختيار العنوان سباحة في بحر الوجود، ليشير إلى فعل مستمر لا نهاية له، وإلى مسار معرفي يظل ممتدًا مع الإنسان ما دام حيًا.

الكاتب لا يتعامل مع الفلسفة باعتبارها ترفًا عقليًا، بل كمنهج حياة؛ فالفلسفة بالنسبة له هي تطهير للذات، ووسيلة لتهذيب الفكر، ومجال لارتقاء العقل إلى إدراك أوسع لمعنى الوجود.

مضمون الكتاب:

يتألف الكتاب من ثمانية وستين فصلًا موزعة على أربعمئة وست وتسعين صفحة من القطع الكبير. هذا الحجم الضخم يعبّر عن شمولية الرؤية التي أراد المؤلف تقديمها. الفصول الأولى تعالج قضايا نظرية المعرفة: العلاقة بين الفلسفة والعلوم، حدود الحس والتجربة، دور العقل في صياغة التصورات والتصديقات، وإشكالية المفاهيم. هذه البداية تمثل التأسيس الذي لا غنى عنه لأي مشروع فلسفي معاصر، إذ لا يمكن الخوض في قضايا الوجود دون تحديد أدوات المعرفة وحدودها.

ثم ينتقل المؤلف إلى القضايا الوجودية الصريحة: الوجود والماهية، العلة والمعلول، المجرّد والمادي، الجوهر والعرض، الزمان والمكان، الثبات والتغير، القوة والفعل، الحركة. وهذه كلها مفاهيم مركزية في الفلسفة الأرسطية والإسلامية الحديثة، أعاد الكاتب عرضها بلغة معاصرة، مدعمة بتحليلات نقدية ومقارنات مع التراث الفكري.

بعد ذلك تأتي الفصول الأكثر حساسية: الواجب الوجود وصفاته، وكيفية تمييزها عن صفات الممكنات والمخلوقات. يناقش المؤلف قضايا الخير والشر، القضاء والقدر، غاية الخلق، ودور التوحيد في بناء منظومة فكرية وأخلاقية متكاملة. هذه الفصول تكشف عن جرأة فكرية في مقاربة المسائل العقدية الكبرى بلغة فلسفية، تجمع بين العقلائية والروحانية.

رحلة في الكتاب:

البداية في هذا الكتاب تؤسس أرضية صلبة لفهم الفلسفة، حيث يطرح المؤلف رؤية واضحة لدور الفلسفة في حياة الإنسان. يفتتح العمل بمقدمة مطوّلة حول معنى الفلسفة ورسالتها، فيعيد للقارئ الثقة بأن الفلسفة ليست ترفًا ذهنيًا، بل ضرورة وجودية لفهم الذات والعالم.

ينطلق المؤلف من نظرية المعرفة، وهي مفتاح كل تفكير فلسفي جاد، فيتناول قضايا الإدراك، والتجربة، والحس، والمفاهيم، والتصديقات. هذا الجزء يُظهر قدرة الكاتب على التوازن بين العرض الدقيق للمفاهيم الفلسفية التقليدية وبين إضفاء قراءة شخصية تعكس خبرته الخاصة في الغوص في بحر الفكر.

ثم ينتقل إلى حقل الوجودية من أوسع أبوابه. يناقش ثنائية الوجود والماهية، ويعرض فكرة العلة والمعلول بأقسامها وطرقها المختلفة، مستحضراً التراث الفلسفي الإسلامي مع ربطه بمفاهيم الفلسفة الغربية. هذه المقاربة المزدوجة تجعل الكتاب جسراً بين حضارتين، يربط بين الفكر الأرسطي–الأفلاطوني من جهة، والفكر الحديث والمعاصر من جهة أخرى.

القارئ يجد نفسه أمام رحلة متدرجة، تبدأ من المجردات إلى الماديات، ومن الجوهر إلى العرض، ومن الزمان إلى المكان، ومن الثابت إلى المتغير. إنها رحلة تكاد تشبه الصعود في سلم معرفي، حيث يكتشف القارئ في كل فصل طبقة جديدة من طبقات الوجود.

يتوقف المؤلف مطولاً عند مفهوم الحركة، فيحللها بوصفها جوهرًا للتغير وسراً للوجود المتجدد. يعرض العلاقة بين القوة والفعل في صورة فلسفية تجمع بين العمق التحليلي والوضوح في العرض، مما يجعل القارئ قادراً على متابعة أفكار معقدة دون أن يشعر بالغربة أو الغموض.

وفي الفصول اللاحقة، يتناول مسألة الواجب الوجود، حيث يقترب من ميدان الفلسفة الإلهية. يعرض المؤلف مختلف الآراء حول الذات الإلهية المقدسة، ويبين الفوارق الدقيقة بين صفات الواجب وصفات الممكنات. يربط بين مباحث التوحيد ومسائل القضاء والقدر والخير والشر، فيفتح أمام القارئ أبواب التأمل في قضايا ميتافيزيقية عميقة طالما شغلت الفكر الإنساني منذ القدم.

الأسلوب والنهج:

يمتاز الكتاب بأسلوب يجمع بين العمق والوضوح. فاضل عباس الجميعي لا يسعى إلى الغموض المصطنع الذي اعتادت عليه بعض الكتابات الفلسفية، بل يقدم القضايا بأسلوب جذاب، مع أمثلة وإشارات قريبة من ذهن القارئ، ما يجعل العمل متاحًا لغير المختصين، دون أن يفقد قيمته الأكاديمية بالنسبة للباحثين.

كما يتسم الكتاب بترابط موضوعاته وتسلسلها. الفصول تتدرج من التمهيد المعرفي إلى الغوص في قضايا الوجود، ثم إلى معالجة المسائل الإلهية الكبرى، في مسار تصاعدي يواكب حركة عقل القارئ من البسيط إلى المركب، ومن الظاهر إلى الباطن.

الكتاب لا يكتفي بالعرض الفلسفي، بل يقدم جرأة نقدية بارزة. فالمؤلف لا يمر على الآراء مرورًا باردًا، بل يزنها بميزان العقل، ويقدم تعليقات جريئة تفتح الباب لمناقشات جديدة. هذه الجرأة النقدية تمنح الكتاب طابعًا حواريًّا، وكأن المؤلف يدعو القارئ إلى أن يكون شريكًا في التفكير، لا مجرد متلقٍ سلبي.

من السمات البارزة في هذا العمل، الأسلوب الأدبي الجذاب. فرغم تعقيد الموضوعات المطروحة، يكتب المؤلف بلغة واضحة وسلسة، بعيدة عن التعقيد اللفظي الذي ينفّر القارئ من الفلسفة. وهذا ما يجعل الكتاب متاحًا لشرائح واسعة من القراء، من المختصين إلى المهتمين بالفكر العام.

من الناحية البنيوية، الكتاب يتألف من أربعمئة وستٍ وتسعين صفحة من القطع الكبير، ما يعكس الجهد الكبير المبذول في جمع مادته وصياغتها. تقسيمه إلى ثمانية وستين فصلاً يجعل القراءة أكثر سهولة، حيث يمكن للقارئ أن يتناول كل فصل كوحدة فكرية قائمة بذاتها، وفي الوقت نفسه جزءاً من البناء الكلي.

الكاتب يتعامل مع موضوعاته بترابط وتسلسل محكم، فلا يشعر القارئ بقطع مفاجئ أو قفز غير مبرر بين الموضوعات. هذا الترابط يتيح متابعة الأفكار بشكل سلس، كما لو أن القارئ يرافق المؤلف في رحلة متدرجة من السؤال إلى المآل ثم إلى الجلال، كما يوحي عنوان الكتاب.

تتضح أهمية هذا العمل أيضًا في كونه يقدم شمولية وعمقاً في آن معاً. فالشمولية تظهر في تنوع الموضوعات التي يتناولها، من المعرفة إلى الوجود، ومن الماهية إلى العلية، ومن المكان والزمان إلى قضايا التوحيد. أما العمق فيظهر في التحليلات التي يقدمها، والتي لا تكتفي بالسطحيات بل تغوص في جوهر المفاهيم.

إضافة إلى ذلك، يتضمن الكتاب في نهايته شروحاً وتعريفات للمصطلحات الفلسفية، فضلًا عن أسماء المصادر التي استقى منها الكاتب. هذا الجانب يجعل الكتاب مرجعاً عملياً للقراء والباحثين، حيث يمكنهم العودة إلى هذه التعريفات والمصادر لتعزيز فهمهم للموضوعات المطروحة.

قيمة الكتاب الفكرية:

من أبرز القيم التي يقدمها الكتاب أنه يعيد الاعتبار للفلسفة في زمن يغلب عليه الانهماك في الجزئيات العملية. فالقارئ يدرك أن الفلسفة ليست بعيدة عن هموم الإنسان اليومية، بل هي أساس لفهم معنى الحياة وغايته. هذه النقطة تحديدًا تمنح الكتاب قيمة تربوية، إذ يدعو إلى تربية العقل على السؤال والتفكر والنقد.

القيمة الأخرى تكمن في أن الكتاب يفتح بابًا للنقاش بين الفلسفة والدين. فحين يتناول المؤلف قضايا التوحيد والواجب الوجود وصفاته، يضعها في سياق فلسفي عميق، ولكنه لا يغفل البعد الروحي والإيماني. بهذا الشكل يصبح الكتاب مساحة مشتركة بين العقل والإيمان، بين الفكر المجرد والروح المتعالية.

إن قراءة هذا الكتاب تشبه الدخول إلى بحر عميق. ففي كل فصل يجد القارئ موجة جديدة من الأفكار، وفي كل تحليل يكتشف أفقًا آخر من المعنى. ومن يملك الصبر على متابعة هذه الرحلة سيجد نفسه في النهاية أكثر قدرة على طرح الأسئلة الكبرى حول الوجود والمصير والجلال.

بهذا المعنى، الكتاب ليس فقط مرجعًا فلسفيًّا، بل تجربة فكرية وجدانية. إنه يدعو القارئ إلى أن يعيش مع الفلسفة لا كعلم جامد، بل كفن للحياة، وكوسيلة لفهم الذات والآخر والكون.

هذا العمل يحقق عدة قيم فكرية:

• الشمولية: جمع بين المعرفة، الوجود، الميتافيزيقا، الدين، والأخلاق.

• الجرأة النقدية: طرح نقدي للآراء الفلسفية السائدة، ومحاولة صياغة رؤية خاصة.

•التجديد: إعادة قراءة الموروث الفلسفي بلغة جديدة، ومحاولة مواءمته مع قضايا العصر.

•البعد التربوي: تقديم الفلسفة كمدخل لتزكية النفس، لا كمجرد نقاشات نظرية.

الخلاصة:

إن سباحة في بحر الوجود يمثل إضافة نوعية إلى المكتبة الفلسفية العربية. فهو عمل يجمع بين الجدة والأصالة، بين النقد والطرح البنّاء، بين الشمولية والعمق، وبين الفكر العقلي والروح الإيمانية. إنه بالفعل سباحة فكرية في محيط واسع، تستحق أن يخوضها كل من يبحث عن معنى وجوده، وعن طريقه نحو الحقيقة.

سباحة في بحر الوجود ليس كتابًا للقراءة السريعة، بل هو مشروع يحتاج إلى تأمل وتدرج. القارئ سيجد نفسه أمام نصوص تثير الأسئلة أكثر مما تقدم الأجوبة، ولكن في ذلك تكمن قيمته. فالفلسفة هي فن التساؤل قبل أن تكون فن الإجابة.

الكتاب إسهام مهم في الفكر العربي المعاصر، ومحاولة جادة لإعادة طرح السؤال الوجودي بروح جديدة. إنه دعوة للانفتاح على الذات والعالم، وللغوص في أعماق بحر الوجود دون خوف، بل برغبة في الاكتشاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى