أقلام

اللحظة الراهنة

السيد فاضل آل درويش

ورد عن أمير المؤمنين (ع): (إن عمرك وقتك الذي أنت فيه)(عيون الحكم والمواعظ ص ١٤٢).

التوجيه الأبرز في هذه التحفة الواردة هو الحفاظ على الوقت واغتنامه في طريق تحقيق الأهداف والآمال المناسبة لقدراته وتطلعاته، مع الحذر من عوامل الهدر وتضييع الأوقات كالملهيات وأدوات الفراغ التي بدورها تحرف بوصلة العمل والرصيد المستقبلي في الآخرة، إلا أنها تتعلّق بمفهوم الحياة والوجود ومعنى التكامل والتألق الذي يمكن أن يسلكه الإنسان الراغب في تحقيق وجوده الأسمى، فالعمر الحقيقي الذي يشكّل ساحة العمل والشروع في الأهداف الفكرية والمهارية وغيرها هي اللحظة الراهنة، وعلينا استثمارها وتحويلها إلى محطة ومرحلة نتقدّم فيها خطوات إلى الأمام، دون الالتفات لما كان يحمله الوقت الماضي من خيبات ومحطات إخفاق أو صدمات والتقوقع حولها ؛ لتتحوّل إلى هواجس وكوابيس تكبّل الفرد وتشلّ قواه عن المضي مجددًا نحو طريق العمل المثابر، ولا نضع في الحسبان أن الأيام القادمة ستكون جزءًا من أعمارنا مما يستدعي الاتكاء عليها في ترحيل وتأجيل بعض المهام والواجبات من باب التكاسل والتسويف، بل الإنسان له علاقة وعي وتبصّر بالعامل الزمني الذي يشكل الإطار والميدان الذي يتحرك فيه سعيا خلف تشكل صورة الإنجاز وبلورة مؤشرات النجاح عنده، ولهذا تضع هذه الحكمة حجر الأساس في بناء النضج والرشد العقلي عند الفرد وتأسيس علاقة ناجحة بالعامل الزمني بعيدًا عن اجترار آلام الماضي أو الجري خلف السراب والأماني الفارغة مستقبلًا.

المفهوم المتبادر للأذهان عن الأعمار هو تلك السنوات التي يعيشها الفرد قبل أن يرحل عن هذه الدنيا (الآجال)، ولكن الإمام علي (ع) يركز على جانب معين وتعريف أدق لمعنى العُمُر ألا وهو اللحظة الراهنة (الحالية)، للتأكيد على جنبة مهمة وهي رأس المال الذي يمتلكه الفرد وما هو تحت يده ويستطيع أن يتحرك من خلاله، فالماضي قد طويت صفحة سجله ولا يمكن إعادة عقارب الساعة ليعبث الفرد بتفاصيله ويغيّر أحداثه بحسب رغباته، والمستقبل المجهول لا يوجد فيه ضمانة معينة للفرد على مستوى الوجود (الحياة) أو الفاعلية والاقتدار أو دخول العوامل المانعة، ولا يتبقّى له سوى الوقت الحاضر وعليه أن يغتنم الفرص ويعوّض عما فاته أو ضيعه والوعي بأهمية الوقت الحاضر بنحو مستمر يمثل المحرك والباعث للإنسان نحو ترتيب أوراقه وحساباته وتحويل هذه المدة الزمنية.

علماء النفس والتربية يهتمّون بالسلامة والصحة النفسية والتركيز على الوقت الراهن دون تشتيت القدرات والتفكير بضغوط الماضي الأليم وما يحمله من هموم قد تثقل النفس عن القيام بعمل مستقبلي، كما أن الاستغراق واستشراف المستقبل بعين الأماني والأحلام الوردية يفقد الفرد اتزانه ويسبب انفصالًا عن الواقع مع ضعف القدرة على التكيف مع الأوضاع الصعبة، وهذه الحكمة تمثّل دعوة للتحرر من آلام الماضي وأوهام المستقبل، ليعيش الإنسان الواقعية والسقوف المتناسبة مع قدراته وإمكاناته ويسير وفق منهجية واضحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى