
المترجم : عدنان أحمد الحاجي
محاضرة قدمها إيلون ماسك
بدء فصل جديد من الحياة بعد الستين تعني أن السن ليس عائقًا وأنك لا زلت قادرًا على العمل والعطاء وبدء حياة جديدة، عقودًا من الخبرة والحكمة المتراكمة والدروس المستقاة وشبكات المعارف تمنحك المهارات والمرونة اللازمة للبدء من جديد. هذه الملكات التي بنيتها طوال هذه السنوات يفتقر إليها معظم الشباب بحكم السن وقلة الخبرة.
سن الستين ليس النهاية – بل هو نقطة يمكن الانطلاق منها من جديد ويمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا وبداية قوية وفريدة في حياتك وحياة غيرك.
لو بلغت الستين، فقد تكون هذه أول فرصة حقيقية لك لتعيش حياة كنت تتمناها. ليس ما يُمليه عليك المجتمع، ولا ما تتطلبه وظيفتك، بل ستعيش الحياة التي تريدها أنت وترغب فيها. وسأكشف لك لماذا قد يكون هذا الفصل من حياتك هو أقوى فصل مر عليك، باعتباره فصلًا محوريًا. دعني أسألك شيئًا. هل نظرتَ إلى ما حولك يومًا وتساءلتَ: هل هذا كل ما في الأمر؟ هل فاتني القطار بالبدء في أي محاولة للتغيير في هذا السن؟ ربما أصبح بيتك أكثر هدوءًا [بعد مغادرة الأولاد]. ربما لم يعد جدول أعمالك مزدحمًا كما كان. ربما كنتَ تُخفي حلمًا يراودك على مدى عشرين عامًا الماضية.
تستيقظ صباحاً وتبدأ بالتفكير: “ما فائدة البدء من جديد بعد الستين؟” حسنًا، إليك هذه الحقيقة. فأنت في الواقع لن تبدأ من جديد، بل تبدأ وأنت مستفيد من تجاربك وإخفاقاتك ونجاحاتك السابقة.” هل تعلم أن كولونيل ساندرز Colonel Sanders أسس مطاعم كنتاكي وهو في سن الثانية والستين؟ لم تنشر لورا إنغلز وايلدر Laura Ingles Wilder كتابها الأول عن “البيت الصغير” إلا في سن الخامسة والستين. ابتكر بيتر مارك روجيه Peter Mark Roier قاموسه الموسوعي للمرادفات في السبعينيات من عمره. في عالمنا الحديث، ملايين الناس في أمريكا وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا يُعيدون اكتشاف أنفسهم في الستينيات من عمرهم ويزدهرون.
لماذا؟ لأن الستين اليوم ليست كما كانت. مقطع الفيديو هذا سيفتح عينك بطريقة لم تتوقعها. الآن، لنبدأ بتوضيح لماذا هذه المرحلة من حياتك على وجه التحديد، هي اللحظة المثالية للبدء من جديد. فالماضي لا يُمكن تغييره، والمستقبلُ لم يأتِ بعد. البدءُ من جديدٍ الآن يعني البدءَ بأساسٍ وبزخم أقوى، ولكن يحتاج إلى قرار بالعمل، لا الانتظار. فالكثير عادةً ينتظرون اللحظة “المثالية،” والتي قد لن تأتي أبدًا. تكمن القوة في اختيار البدء الآن – فالجمود لا يحتاج سوى خطوات صغيرة حتى ينكسر.
اللحظة الحالية هي اللحظة الوحيدة التي تملك فيه القدرة على الفعل والتغيير. فالماضي ذهب والمستقبل لمّا يأتي بعد
لقد تصرفت بكل ما هو مناسب، واجتهدتَ وعملت بجد، وسددتَ كل ديونك، وربما ربّيتَ أسرةً، ومع ذلك ينقصك شيءٌ ما. ليس من الغريب أن تشعرَ بأنكَ غير مرئي بعد سن الستين. يعكس هذا الشعور كيف يتعامل المجتمع غالبًا مع كبار السن. بعد سن الستين والتقاعد، قد يشعر كبار السن بفجوة في علاقاتهم الاجتماعية ولم يحظوا بالتقدير الذي يستحقونه، قد تصل هذه الفجوة إلى حد التجاهل سواء من المجتمع أو حتى من بعض أفراد الأسرة، وأصبحوا هم وكل ما انجزوه وساهموا به في طي النسيان. فأصبحت الشيخوخة لا يعار لها بال في ظل ثقافة محورها الشباب. بيد أن التقدير والاحترام ما تزال حاجة إنسانية متأصلة يحتاجها الإنسان مهما كان سنه.
كثيرًا ما يهمس العالم: “حان وقت الراحة. دع الشباب يتولون زمام الأمور.” لكن ماذا لو قلتُ لكَ إن هذه العبارة ليست مجرد ادعاء، بل ادعاء خطير؟ كما ترى، الخبرة هي العملة الأهم في هذه الفترة، وأنتَ ما زلت تجني ثمار جهودك وخبراتك وعلاقاتك وحكمتك التي راكمتها طوال الستين عامًا الماضية. دعني أقولها لك مرة أخرى: أنت حين تبدأ بعد الستين، فأنت، في الحقيقة لا تبدأ من الصفر، بل لديك مخزون من كل ما ذكر آنفًا تراكم على مدى عقود، وهذا يعني الشيئ الكثير.
لقد اكتسبتَ طوال هذه العقود الستة حكمة وقدرات ومستوىً من الصمود والمرونة. هذه قيمة تفوق كل ما يتخيله معظم من هم في الثلاثينيات من عمرهم. لكن لا يقولون لك ذلك إلّا نادرًا. في عالم هذا اليوم لا يحظى بالتقدير والإهتمام إلّا الثقافة العصرية، وأماكن العمل، ووسائل التواصل الاجتماعي والترددات، والنتائج السريعة، والاستجابات الفورية، والمشاركة السطحية. أما العمل الدقيق والمدروس والمتعمق والإرث الثقافي فلا يحظى بأي اهتمام. لذا، اسأل نفسك: هل تعيش على زخم وانجازات الماضي أم تهتم بالمستقبل. وتُبدع، وتتعلم، وتستثمر عن سابق قصد في أهداف أو علاقات أو مشاريع جديدة ستُؤتي ثمارها لاحقًا – فأنت بذلك تهتم بالتأثير فيما هو قادم لا الاهتمام بما مضى.؟
بعد لحظات، سأحدثك عن كيف بدأت امرأة أسترالية مشروعًا تجاريًا ضخمًا من مطبخها حين كانت في الثالثة والستين بدون أن تملك أي مهارات تقنية أو مستثمرين، ومدى التحول في ذهنيتها الذي حقق لها هذا الإنجاز، مما يعني أنها اكتشفت ما كان يعيقها وتغلبت عليه، مما أطلق العنان لإمكاناتها الكامنة أو فتح لها الطريق نحو هذه الإنجازات.
لكن أولًا، أريد أن أقدم لك شيئًا آخر، منظورًا جديدًا. تأمل في كل ما تعرضت له من صعوبات وتحديات وإخفاقات يُذكرك بصمودك وقدرتك على التكيف وقدرتك على المضي قدمًا حتى في هذه الأوقات والظروف الصعبة. سواء أكانت انهيارات اقتصادية، خسائر مادية، إجهاد وظيفي في العمل. لقد جربت تلك الظروف مرارًا وتكرارًا، وماذا بقي بعد كل هذه؟ بقيت أنت، أقوى مراسًا وأفضل حكمةً. فلماذا يقول لك الناس أن أفضل أيامك قد ولت؟ خاصةً مع تقدمك في السن. لأن المجتمع يخشى ما قد يفعله إنسانٌ يقظٌ تمامًا، واعٍ تمامًا، ولديه خبرةٍ طويلة وله وجهة نظر ناهضة وحريص على وقته وموارده وقادر على التصرف بحكمة واستقلالية وما يزال لديه حياة حبلى بالأيام الجميلة.
أنت لا تحتاج أن تتعلم الدروس ولا تسمعها من أحد، بل عشتها وتعيشها. فقد صقلتك التجارب وشكلت شخصيتك الحياة، وقوتْك الخبرات ومنحتك الحكمةً فأصبحت أنت من يجسدها على أرض الواقع في خياراتك وتصرفاتك
كل محنة تعرضت لها ربما هدمت شيئًا ظاهرًا على السطح في حياتك – خططك، ثقتك بنفسك – لكن كل واحد منها بقي أيضًا شيئًا أقوى منه بداخلك: الصمود، الحكمة، الذكاء العاطفي، والقيادة. تأمل في الأمر، لقد كنت قادرًا على إدارة شؤون أسرتك، وعلاقاتك الاجتماعية، ومواردك المالية، وواجهت الأزمات. لقد دعمت الآخرين بينما استطعت بينك وبين نفسك أن تدير مخاوفك أو شعورك بعدم الأمان بهدوئك وحكمتك المعهودة بفضل قوة ضبطك لانفعالاتك.
لقد تعلمت متى تتكلم ومتى تصمت. هذه ليست مجرد حياة، بل هي دروس أعدتك للقيادة في الحياة. ربما لم يمنحك الله حلمًا في الصغر لأنك لم تكن مستعدًا له. ربما دعاؤك الذي كنت تدعو به خفية في الأربعينيات من عمرك يُستجاب لك الآن وأنت في الستينيات. لذا بدلًا من أن تسأل نفسك: توقف عن سؤال لماذا لم يحدث هذا في السابق (في فترة الشباب)، ربما كان هذا التأخير في الإجابة لصالحك، وقد يكون جزءً من إعدادك للمستقبل! ولكن ليكن سؤالك ما إذا كان وراء تأخير الاستجابة إلى هذه الفترة تدبير إلهي، وهذا يعني أن كل ما مررتَ به وتعرضت له كان بمثابة إعدادك إلى هذه الفترة حتى تكون على أتم الاستعداد. لقد تضافر كل شيء لجعل هذه اللحظة هي اللحظة المناسبة والمواتية.
ستندهش من أعداد الذين لديهم نفس الشعور. خذ عشر ثوانٍ، أغمض عينيك، وتخيّل حياتك بعد عام من الآن لو خطوت الخطوة الأولى في مشروعك القادم الذي طالما كنت تفكر فيه – سواءً كان كتابة كتاب، أو بدء مشروع تجاري، أو رسم لوحة، أو قيادة مشروع مجتمعي، أو إلقاء محاضرات. هل تتخيل ذلك؟ هذا لا يعد خيالًا أو حلمًا أو أمنيات، بل إمكانات حقيقية يمكن استثمارها. لكن يحتاج إلى اتخاذ القرار وبدء الخطوة الأولى حتى إطلاق العنان لإمكاناتك، وحتى البدايات الصغيرة يمكن أن تُغير حياتك بمرور الزمن.
والإمكانات لا تنضب. إليك خطوة أولى يمكنك اتخاذها. خذ دفترًا الآن واكتب هذا السؤال في أعلى الورقة: ماذا كنت سأفعل لو علمت أن الوقت لم يفت بعد وفي العمر بقية؟ ثم اكتب أي شيء يخطر ببالك. بلا تنقيح، بلا أحكام مسبقة [جيد أو سيء]، فقط احتمالات أو امكانات. هكذا تبدأ كل حياة جديدة بشجاعة التخيل. مرة أخرى، سنتحدث عن أكبر ثلاث كذبات يتناقلها المجتمع عن العمر، وكيف تُدمر هذه الكذبات الثلاث، بصمت، أحلام ملايين تجاوزوا سن الستين، وتدفع حتى إلى الشك في أنفسهم أو التخلي عن أحلامهم. لكن لا تجعل العمر يحد من إمكاناتك ومن تحقيق أحلامك.
لكن بمجرد أن تكتشف ذلك، ستصبح شخصًا لا يُقهر. بنهاية هذه الرحلة، ستدرك لماذا بدأ عمرك من جديد. هل تعلم ما هي أخطر خرافة في العالم؟ أن هناك سنًا معينًا تنتهي معه إمكانياتك وقدراتك، وبعده تتقاعد عن كل شيء، دعني أسألك. من أخبرك بذلك؟ من قرر أن الستين هي سنّ التوقف عن الحلم الذي طالما كنت تسعى لتحقيقه؟ دعني أقول لك أن هذه الفكرة يقينًا كاذبة. كثيراً ما تُعيق الناس هذه الأساطير والقيود التي يفرضها المجتمع.
والأسوأ من ذلك، هذه هي كذبة حرمت ملايين الناس من أجمل سنوات حياتهم. الآن، في هذه اللحظة بالذات، هناك آلاف مثلك، رجال ونساء في جميع أنحاء العالم، انطلت عليهم هذه الكذبة. بالعكس، هذا هو الوقت المناسب للاستيقاظ والبدء من جديد. فكّر في ذلك. قد تكون هذه هي المرة الأولى في حياتك التي تبدأ فيها بتشييد أحلامك. في هذا السن استرحت من الكثير من المهمات العائلية، في هذا السن راكمت الكثير من الحكمة وأصبحت الأمور في ذهنك جدًا واضحة وضوح الشمس. لذا استمع إلى ما تقوله لك أحلامك
دعوني أحدثكم عن امرأة التقيتها في ملبورن، أستراليا، منذ فترة ليست طويلة. اسمها روث. كانت في الثالثة والستين من عمرها عندما قررت تأسيس أول مشروع تجاري لها. لم يكن المشروع شركة تقنية، ولا شركة ناشئة في وادي السيليكون، ولا حتى مخبز متطور، بل مخبز تبيع فيه خبز معجون ومخبوز يدويًا لا يحمل علامة تجارية مميزة.
“انتظرت طوال حياتي لأسمح نفسي بالبدء بهذا المشروع البسيط. خمن ماذا حدث بعد ذلك؟ في غضون عامين، توسعت تجارتها وامتلكت أربعة متاجر خبز. والأهم من ذلك، أصبحت سعيدة، ليس لأنها أصبحت غنية، ولكن لأنها لأول مرة شعرت أنها عاشت حياتها الخاصة. هذا بالضبط ما أريده لك. هناك سبب يجعل الستينيات من عمرك قوية. وليس فقط بسبب الحكمة التي راكمتها عبر السنين أو الصبر الذي مارسته على نفسك، بل بسبب القدرة على تمييز الأنماط والاتجاهات. انظروا، يملك الشباب القوة والطاقة والحماس والدافعية لكن قد يفتقرون إلى الوضوح الكافي في الرؤية في الحياة ولا يدرون أين يتجهون.
لقد لاحظت أن بعض الناس يعدون بالكثير ولا يوفون بشيء. شاهدتَ الحياة تتكشف كفيلم سينمائي أمام ناظريك. وهذا يمنحكَ ميزةً هائلة. أنت تعرف ما المهم في الحياة. في هذا السن لم تعد تكترث بالزبرجة كثيرًا. ما اكتسبتَه طوال هذه السنين لم تحصل عليه عن طريق التعليم الجامعي وقد لم تمنح عليه شهادة، وهذا التميز هو مفتاح لبدء شيء له معنى ونافع في الحياة.
لم تعد بحاجة لعشر سنوات حتى تتمكن من إتقان شيئًا ما. أنت بحاجة للوضوح في الرؤية حتى تحدد الاتجاه. أنت بحاجة للعزم. أنت بحاجة إلى أن تكون أفكارك وأفعالك وقيمك وأهدافك في نفس الاتجاه، وهذا ضروري. وهذه أمور تحتاج إلى حكمة وخبرة ولا تظهر إلا في سن الشيخوخة بعد أن يتلاشى الضجيج ويهدأ الغبار وتتضح الأمور. قد يستمع بعضكم ويقول: “لكن يا إيلون، لم أعد أملك الطاقة التي كانت لدي سابقًا.” دعوني أخبركم بشيء غريب. لقد تعلمت بمرور الزمن أن الطاقة تواكب الهدف، لا العكس. فإذا قلبك لا زال يعمل بكفاءة، فالجسد يواكبه. لقد رأيت أشخاصًا في الثلاثينيات من عمرهم منهكين لا قوة لهم ولا حول. ورأيت أشخاصًا في السبعينيات من عمرهم يبنون إمبراطوريات.
والفرق لا يكمن في كونهم شبابًا، بل يكمن في الإيمان. في اللحظة التي تؤمن فيها بأنك في بداية حياتك، يبدأ كل شيء بداخلك بالاستجابة لهذا الإيمان.
يشعر الكثيرون بأنهم وقعوا”رهينة” الاعتقاد بأن البدء من جديد في سن متأخرة أشبه بالبدء من الصفر، لا ليس كذلك فالبدء من جديد في سن الستين ليس العودة إلى الصفر، بل هو بداية جديدة، ولكن بداية تصاحبها خبرات ومعارف ودروس تراكمت من السابق. فهي أشبه بلعبة شطرنج بعدد أقل من القطع على الرقعة، ليس لأنك فقدت نصف أحجارها، بل لأنك تخلصت استراتيجيًا منها كما تتخلص من المُشتتات والأعباء غير الضرورية. فالتخلص من الأصدقاء المُزيفين، والكسل والخمول، وصراع الأنا بين شخصين أو أكثر، لذا فأنت تعمل عن حكمة، لا عن ضعف، وهذه الحكمة في الواقع هي ميزة، لا انتكاسة.
دعوني أحدثكم عن رجل أمريكي من ولاية أوريغون يُدعى ويليام راسلني قبل فترة، كان يعمل في شركة ورق لمدة 34 سنة. سُرِّح من عمله في الثانية والستين من عمره،. شعر بالمهانة وعدم تقدير خدماته. ظن أن كل شيء قد انتهى بالنسبة له. لكن بدلًا من الاستسلام، تذكر شيئًا كان مهتمًا به، إصلاح الأشياء. باختصار، أنشأ قناة على الـ يوتيوب تُعلّم كبار السن كيف يعملون إصلاحات منزلية بسيطة.. اليوم، لديه أكثر من مليون مشترك. وقال لي شيئًا لن أنساه أبدًا: إيلون، ظننتُ أنني طردت من العمل، لكن في الحقيقة، الآن، أنا لا أقول إن عليك إنشاء قناة أو فتح متجر أو الانتقال إلى مكان آخر في البلاد، لكنني أقول هذا. هناك شيء بداخلك ظل ينتظر عقودًا من أجل هذا الفصل من الحياة. والوقت لم ينفد بعد. لقد بدأ عمري للتو.
حتى لو كنت تستمع وأنت تمشي أو وآنت جالس في السيارة، خذ نفسًا عميقًا الآن. اسأل نفسك، أي قدرة أو مهارة من قدراتي أو مهاراتي تجاهلتها طوال الـ 30 سنة الماضية؟ هل هي قدرتي على التأليف، البنّاء، التعليم؟ قدراتك هذه لم تختف. إنها فقط تنتظر قرارك بفارغ الصبر. ألا تعتقد أن الوقت قد حان لتمنح ذلك الجانب فرصة للبدء من جديد؟ حسنًا، سنتحدث بعد ذلك عن الاقتصاد الجديد ولماذا نحتاج من هم فوق الستين أكثر من أي وقت مضى.
لقد لقنكم المجتمع العكس. العقول الشابة أسرع. الشباب أكثر تكيفًا. يتفوقون في استخدام التكنولوجيا. يفهمون أين يتجه العالم، أليس كذلك؟ لكن إليكم الجزء الذي لا يتحدث عنه أحد: الاقتصاد الحديث يواجه مشكلات لا يستطيع حلها إلا أصحاب الخبرة. وهنا تكمن المفاجأة الصادمة. بينما لا يزال الشباب يحاولون تطوير مهارات التفكير الواضح والسليم واتخاذ القرارات بناءً عليه، أما أنتم فوق الستين تتمتعون بخبرة تمتد لعقود في التفكير تحت الضغط، واتخاذ القرارات في المواقف العصيبة أو عالية المخاطر.
دعوني أوضح أكثر. نعيش في زمن السرعة ولذا نرغب في الحصول على إجابات فورية، لا عصر التفكير العميق. تدخلون مواقع التواصل الاجتماعي، فتجدون شابًا في الثالثة والعشرين من عمره يحاول تعليمكم كيف تصبحون أثرياء. تسألون قوقل، فيطرح عليك الذكاء الاصطناعي خمس حيل سريعة للثراء. لكن العالم لا يحتاج إلى حيل. بل يحتاج إلى حكمة. يحتاج إلى ذكاء عاطفي. يحتاج إلى هدوء تحت الضغط. وهذه أشياء معقدة عادةً لا يستطيع شاب في الخامسة والعشرين من عمره ليس لديه منظور بعيد ولا خبرة أو حكمة كافيتين، هذا لا يعتبر إهانة لذكاء الشباب إنما هم لم يعيشوا طويلًا بما يكفي أو لم يمتلكوا تجارب كافية لتمييز الأنماط والاتجاهات ومراكمة هذا المستوى من الحكمة بعد. فالخبرة تحتاج إلى وقت والحكمة لا تأتي إلا بعد سنوات مديدة من العمر.
دعوني أحدثكم عن رجل من ألمانيا يُدعى هنريك، يبلغ 61 عامًا، عمل في مجال اللوجستيات طوال حياته، في التخزين وسلاسل التوريد والشحن. لعقود، كان مجرد جزء من نظام. ثم في عام 2022، ضربت أوروبا أزمة تأخير شحن هائلة. ازدحام في الموانئ، واختناقات في السكك الحديدية، ومشكلات في الوقود. هل تعلمون بمن اتصلوا؟ اتصلوا بهنريك. لا لشيء، بل لأنه يمتلك خبرة كافية امتدت أكثر من 30 سنة لحل هذه المشكلات.
لم يكتفِ بالمساعدة، بل صمم جزءًا من شبكتهم اللوجستية من جديد. وهو الآن يقدم استشارات عالمية لشركات كانت تتجاهله. وهنا الدرس: عندما تتعقد الأشياء، يلجأ الناس إلى الخبرة. وأنت يا صديقي بصفتك كبير سن، تحمل من الخبرة والحكمة أكثر مما تعتقد. إليك مثال آخر من مانيتوبا، كندا. ساندرا، 65 عامًا، مديرة مدرسة ثانوية سابقة.
تقاعدت. فكرت في أن تأخذ الأمر ببساطة. ثم خلال فترة جائحة كوفيد، تأخر آلاف الأطفال عن الركب في الدراسة. كان الآباء والأمهات مشغولين في أعمالهم. أطلقت هذه السيدة برنامجًا للدروس الخصوصية عبر الإنترنت يديرها كبار السن الذين كانوا معلمين في السابق. في غضون عام، ساعد أكثر من 1800 معلم متقاعد آلاف الأطفال في جميع أنحاء أمريكا الشمالية على اللحاق بزملائهم المتقدمين.؟ قال معظم هولاء الأساتذة المتطوعون إنهم شعروا بحيوية أكثر مما كانوا عليه في الـ 20 سنة الماضية. لماذا؟ لأنهم أخيرًا أحتيج إليهم مرة أخرى. احتيج إلى خبرتهم العميقة في مساعدة الطلاب المتخلفين.
قد تظن أن قيمتك قد انخفضت مع تقدمك في السن – ربما لأن المجتمع يركز على الشباب ويتجاهل كبار السن، لكن ذلك لأنك ربما تقيس نفسك بمعايير خاطئة (مثل، طاقة الشباب وثقافتهم)، فهذا النوع من القياس لا يعكس قيمتك الحقيقية.
لكن الاقتصاد الحقيقي، الذي يجد حلًا للمشكلات الحقيقية، يُعاد بناؤه بهدوء على يد أشخاص عاشوا ما يكفي من الحياة لفهم تلك المشكلات. وهؤلاء هم من كبار سن أمثالك.
هناك الآن أزمة عمالة عالمية، لكن لا أحد يتكلم عن الحل. بعض الدول مذعورة من شيخوخة سكانها.
تحاول الشركات جاهدة البحث عن مواهب يُعتمد عليها. الذكاء الاصطناعي حل محل الوظائف الروتينية المتكررة، ولكن ليس تلك التي تعتمد على العلاقات. والحلقة المفقودة في كل ذلك؟ هي أنت.
أشخاص يتمتعون بالعمق والنضج. والتعبير عن طيف واسع من الانفعالات، وليس مجرد شعور واحد أو اثنين. إنهم متعاطفون وقادرون على التكيف بعد أن أخفقوا ثم نهضوا من كبواتهم” – أشخاص مروا بانتكاسات لكنهم تعلموا منها وتعافوا. لديهم مرونة ورؤية ثاقبة. هؤلاء الأشخاص لا يهتمون بالعناوين والمناصب، ولا ينشغلون بالأقوال بل بالأفعال وما يترك أثرًا. هؤلاء يتميزون بالقيادة الهادئة المفعمة بالخبرة والذكاء العاطفي والتواضع والصمود والنمو عبر تقلبات الحياة.
في اليابان حاليًا، أكثر من 15% من القوى العاملة فوق سن الستين. وتخيلوا ماذا؟ لا يشعرون بضغوط نفسية، ولا يتغيبون عن العمل، ويحصلون على تقييمات أعلى من نظرائهم الأصغر سنًا مقابل عملهم مرشدين لموظفين آخرين. حتى أن بعض الشركات تُفضل توظيف موظفين بعد سن التقاعد لأن هؤلاء الموظفين غالبًا ما يكونون جديرين بالثقة وقوة استقرار وظيفي نادرة في ظل اقتصاد مضطرب.
لستَ بحاجةٍ إلى إشراف أو توجيهٍ أو إدارة من أحد للعمل لوحدك. فأنت تملك القدرة لإدارة أمورك بنفسك. هذه القدرةُ على إدارةِ أمورِك بمفردكَ ليستْ أمرًا مقبولًا من قبل الشركات فحسب، بل هي أفضلُ معيارٍ ممكن لأداء العمل.
في فرنسا، هناك امرأة تُدعى سيلفي غشارد، كانت مُعلمة رياضيات متقاعدة في أوائل الستينيات من عمرها. بعد تقاعدها، وجدت نفسها أرملة وحيدة، مُقتنعة بأن سنوات عمرها الثمينة قد ولّت. في أحد الأيام، أثناء زيارتها لمدينة ليون، لاحظت أن هناك ورشة عمل صغيرة للروبوتات للأطفال. دخلت لتشبع فضولها. وبعد نهاية ذلك الأسبوع، تطوّعت لتدريس منطقية البرمجة. بعد ستة أشهر، بدأت بتعلم لغة بايثون البرمجية إلى جنب زملاء من المراهقين. وبعد عام واحد فقط، ساعدت في تصميم نموذج أولي للروبوتات لمعرض ابتكار إقليمي. الآن، تُعلّم كبار السن البرمجة. تقول: “في سن الثالثة والستين، بدأتُ شيئًا جعلني أشعر وكأنني في الثلاثين من عمري. ليس لأنني أصبحت أصغر سنًا، بل لأنني شعرتُ أن بإمكاني أن أكون نافعة للمجتمع من جديد.” هذه ليست مجرد قصة، بل قرينة. على أن الوقت لم يفت بعد وبإمكانك أن تعيش حياةً جديدة.
دماغك لا يتوقف عن النمو في الأربعين. وتأثيرك لا يتوقف عن التوسع في الخمسين. ومنفعتك للمجتمع لا تنتهي في الستين. فالعلم يدعم هذا القول. أثبتت دراسة على سائقي سيارات الأجرة في لندن أن منطقة الحصين في الدماغ، المسؤولة عن الذاكرة والاستدلال المكاني (فهم العلاقات المكانية)، تستمر في النمو حتى لدى الذين تجاوزوا الستينيات والسبعينيات من العمر. بأمكانك تعلم أي حرفة أو تقارن أي مهارة حتى بعد الستين. الموارد والدورات التعليمية متوفرة للمبتدئين حتى لمن تجاوز الستين. فلا يوجود عمر يحد من إشباع فضولك.
تحدّى تحيز الاستكشاف: لا تفترض أنك توقفت عن الاستكشاف أو عن تجربة أشياء جديدة، أو عن التعلم، ولم يعد ذلك بمقدورك – خاصةً بعد تقدمك في السن، أو بعد شعورك بالراحة بعد التقاعد. قاوم الاعتقاد بأن أفضل أيامك قد ولى، وأنك فعلت ما يكفي أو فاتك القطار، ولذا تفضل أن تبقى في المألوف ولا تستكشف أشياء جديدة.
قلها بصوت عالٍ: لم يفتني القطار بعد! ذكّر نفسك أنك ما زلت تنمو وتتعلم وتتغير – فلم يفتك القطار بعد. ابدأ رحلة قصيرة وبسيطة – لا تعمل على احداث تغييرات كبيرة دفعة واحدة، بل ابدأ بخطوات قصيرة ومتسقة (مثلًا، 20 دقيقة يوميًا تقضيها على تعلم مهارة أو ممارسة تمرين أو البدء في مشروع). الجهود البسيطة تتراكم بمرور الزمن. تواصل مع الآخرين” – لا تُواجه الأمور بمفردك. انضم إلى دورة دراسية محلية أو دورة تعقد على الإنترنت. لا تعزل نفسك، فالعزلة تُفقدك الدافع والأمل وتقتل أحلامك، بينما الاختلاط بالمجتمع يقويك.
معظم الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا يتمتعون بنقاط قوة خفية (الخبرة، ووجهة نظر ناهضة، والصبر) يمكن أن تساعدهم في اتخاذ قرارات تغير حياتهم، لكن قد لا يعرفون كيف يستخدمون هذه النقاط القوية لصالحهم.
لكل جانب من جوانب حياتك قيمة، حتى في الأوقات الصعبة. حتى لو شعرتَ أنك ارتكبتَ أخطاءً أو أضعتَ فرصًا، فلا شيءَ يحول دون التعويض والتعافي، أو الانتقال إلى شيءٍ جيد. تخصيصُ وقتٍ للدعاء وللصلاة يُساعد على إعادة ضبط نفسك وتسهيل الأمور للمضي قدمًا من جديد. إذا كنتَ محتارًا من أين تبدأ، فابدأ من هناك. الحكمة لا تقتصر على جمع المعلومات أو البحث عن كل إجابة ممكنة بمفردك. بل تحتاج إلى التواضع والاعتراف بجهلك بكل شيء وطلب المساعدة أو النصيحة من موردها، بعبارة أخرى، المعرفة تتمثل في إيجاد المعلومات. أما الحكمة فتكمن في طلب التوجيه والإرشاد وتطبيقه. فالسؤال والاستماع ضروريان لطلب الحكمة – لا الاكتفاء فقط بالسعي وراء المعلومات.
العالم مهووس بالشباب، والشركات الناشئة، والتغيير الجذري، والسرعة، والتكنولوجيا، وكل الأشياء الرائعة. لكن هنا تكمن مشكلة. غالبًا ما يمتلك الشباب أفكارًا تفتقر إلى البصيرة، وسرعةً تفتقر إلى الاستراتيجية، وثقةً تفتقر إلى المعايرة [فما تدري ما إذا كنت مفرط الثقة أو غير واثق تمامًا، ولذا تجهل ما إذا كانت قرارتك مطابقة للواقع).
دعني آخذك إلى مدينة دنيدن، نيوزيلندا. هناك امرأة تُدعى مارغريت ويلز، تبلغ 74 عامًا. قضت معظم حياتها تصنع الملابس الصوفية التقليدية، والأوشحة، والقفازات، والجوارب، باستخدام تقنيات توارثتها عن جدتها. غُزلت يدويًا، وصُبغت يدويًا، وطُرزت بعناية فائقة. لسنوات، باعت أعمالها الفنية هذه في سوق الأحد المحلي. لا شيء مُبهرج، مجرد طاولة وكرسي وضحكتها الدافئة.
ثم في أحد الأيام، توقف زوجان شابان زائران من مدينة أوكلاند وسألاها: “لماذا قفازاتكِ أنعم من تلك الموجودة في المتاجر؟” ابتسمت وقالت: “لأنني لا أتعجل عملي. انتهى بهما الأمر بقضاء 40 دقيقة يستمعان فقط إلى قصصها عن الزراعة والحرف اليدوية، والقيم القديمة لصنع أشياء تدوم. بعد بضعة أسابيع، عاد الزوجان مع مارغريت لتدير محلًا لبيع هذه المنسوجات اليدوية. اليوم، لا تستطيع مارغريت مواكبة الطلبات، لكنها لا تريد ذلك. تقول: “أصنع ثماني قطع فقط في الأسبوع. لا أحاول التوسع. أحاول أن أبقى مغرمة بالعملية. وتخيلوا ماذا؟ ينتظر الناس أشهرًا لاستلام طلباتهم لأنهم لا يشترون قفازات فقط، وإنما يشترون القصة والمشاعر وأسلوب الحياة التي وراءها، وهذه نتيجة الحكمة التي تمنحها للناس.
ما الذي تعرفه جيدًا لدرجة أن الناس يلجأون إليك طلبًا للنصيحة، حتى لو لم تتقاضَ أجرًا عنها؟ هل يكمن ذلك في طريقة الطبخ، أو إصلاح أجهزة، أو البستنة، أو إدارة أموال، هذه هي الحكمة. وهي تنتظر أن تُستثمر، تُشارك، وتُورث للأيام القادمة. لكن أولًا، عليك أن تتوقف عن اعتبارها بلا قيمة. أريدك أن تفعل هذا اليوم. خذ دفتر ملاحظات واكتب قائمة بعشرة أشياء تعلمتها بصعوبة. ليست مجرد نظريات، بل دروس حقيقية اكتسبتها بجهد وتعب وخسارة وأخطاء وفشل ووقت.
ثم اسأل نفسك، من في المجتمع أو العائلة على وشك مواجهة هذه المشكلات نفسها؟ لأن أبلغ ما يمكنك فعله ليس تأسيس شركة، بل العمل على تقصير منحنى تعلم الآخرين. فالتأثير الحقيقي يكمن في استخدام المعرفة التي اكتسبتها طوال عمرك لمساعدة الآخرين على تقصير منحنى التعلم بمشاركتك إياهم خبرتك ونصائحك لتمكينهم من النجاح بشكل أسرع، وذلك بتجنيبهم الأخطاء التي ارتكبتها أنت بالفعل وتوفير الوقت واختصاره عليهم حتى يتجنبوا المسارات الخاطئة وكل ما من شأنه أن يسبب لهم إحباطات. مساعدة الآخرين تُعزز تأثيرك بما يتجاوز بكثير ما يمكنك فعله بمفردك؛ بل من شأنه أن يترك أثرًا دائمًا.
في بلدة صغيرة قرب أوساكا، التقيت برجل يُدعى تيشي، يبلغ من العمر 67 عامًا. بعد تقاعده من اللوجستيات، فعل شيئًا صادمًا. لم يتردد. بدأ التطوع في معسكر تدريب محلي للبرمجة. استخدم خبرته في حياته العملية لتوجيه الشباب وليس بتدريسهم البرمجة، بل بتقديم النصائح ووجهات النظر والحكمة التي راكمها طوال سنوات عمله.
بعد ذلك، سأريكم كيف تستغلون حكمتكم وتحولونها إلى مهنة ثانية، أو حركة إرشاد. لذا، لا تفوّتوا الفرصة. إليكم الحقيقة المرة. إذا لم تستغلوا ما وهبتكم إياه الحياة، فستشاهدون في النهاية شخصًا بنصف حكمتكم يقود الناس إلى طريق مسدود، وحينها تتراكم الأخطاء عندما يفتقر القادة إلى الخبرة. وهذا ليس محبطًا فحسب، بل هو أيضًا خطير لأن الجيل القادم لا يبحث عن الكمال، بل يتوق إلى التوجيه. لكن هنا تكمن المشكلة. لن يطلب هذا الجيل حكمتكم. بل يتعين عليكم تقديمها لهم بوعي وإبداع، وحتى بهدوء. ولكن عندما تفعلون ذلك، ستصبحون المرشدين لهم. ستصبحون المرآة لهم. ستصبحون الإنسان الذي كنتم تتمنون لو كنتم مثله حين كنتم في الخامسة والعشرين من أعماركم. دعوني أريكم كيف ذلك خطوة بخطوة من خلال قصص حقيقية من أشخاص مثلكم.
ما الشيء الذي تعلمته بشق الأنفس، ولا ترغب أبدًا أن يمر به أو يتعرض اليه حفيدك؟ تذكر درسًا مؤلمًا أو صعبًا في الحياة – درسًا كنت ستحمي حفيدك منه لو استطعت.
هذه هي بذرة حياتك الثانية. قد يصبح هذا الدرس الذي اكتسبته بصعوبة أساسًا لفصلك التالي في الحياة: مهنة ثانية، أو دور إرشادي، أو طريقة لرد الجميل. إنها بداية لحياتك الجديدة. لستَ بحاجة لأن تصبح مؤثرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، ولست بحاجة للسعي وراء الشهرة أو عدد المتابعين. بل أن تصبح صوتًا موثوقًا به. المهم هو المصداقية والأصالة ومشاركة حكمتك مع من يحتاجها. وفي القصة القادمة، سترى كيف يُغير ذلك حياة الناس. في بلدة صغيرة في أوروبا، في قرية هادئة شمال البرتغال، هناك رجل يُدعى أنطونيو سيلفا، يبلغ من العمر 68 عامًا. كان يعمل في صناعة سيراميك برتغالي تقليدي يدويًا. وكان محله صغيرًا ودخله متواضعًا. أصبح شخصية مؤثرة وموثوقة في مجتمعه. تجربته الحياتية، وليس حضوره على الإنترنت، هي ما جعلته ذا قيمة.
لم يتخيل قط أن يصبح أكثر من حرفي يصنع بلاطًا. ولكن عندما ضربت جائحة كوفيد، توقفت السياحة، وأغلقت المتاجر، واختفت الطلبات، وظن أنطونيو أن الأمر قد انتهى حتى أقنعته ابنة أخته بتقديم عرض لرسم البلاط عبر تطبيق زووم لطلاب فصلها الفني في فرنسا. كان مرعوبًا. لم يكن يتحدث الإنجليزية بطلاقة، ولم يكن بارعًا في استخدام التكنولوجيا (تطبيق الزوم). لم يكن يعرف من أين يبدأ، لكن الطلاب أحبوا الدرس. طرحوا أسئلة، وضحكوا، وتعلموا. فكرر ذلك الدرس مرارًا على طلاب آخرين.
اليوم، يُدير أنطونيو ورشة عمل افتراضية شهريًا للجامعات في دول العالم، ويكسب خمسة أضعاف ما كان يكسبه سابقًا، وكل ذلك من منزله. لكن، أكثر من المال، يقول أنطونيو: الآن، لا أصنع بلاطًا فحسب، بل أحافظ على التقاليد الثقافية، والقيم، والمعرفة، والفن، وذلك بنقلها للأجيال القادمة وأبقيها حية قي أوساطهم حتى لا تندثر. وقد بدأ كل شيء لأنه كان مستعدًا لتعليم حرفته للآخرين. دعني أسألك، على ماذا يشكرك الناس دائمًا؟ بماذا يعرفك أصدقاؤك؟ ما المهارة التي تبدو طبيعية جدًا بالنسبة لك، وتظن أنها طبيعية لغيرك؟ هذه ليست طبيعية. هذه هي عبقريتك التي لا يعرفها ويجيدها غيرك.
مفتاح مرحلتك القادمة في الحياة ليس في إعادة اكتشاف نفسك، بل في إعادة اكتشاف ما تجاوزته بالفعل. وليس بالضرورة أن يكون شيئا كبيرًا (الأحداث السابقة لا يجب أن تكون دراماتيكية أو مثيرة؛ حتى التجارب الصغيرة الهادئة التي ممرت بها قد تحمل دروسًا قيّمة يمكنك البناء عليها). دعني أريك. بورغيتا، موظفة حكومية متقاعدة في أوبسالا، السويد، كانت تعمل سابقًا في الشؤون المالية في البلدية. أرقام، ميزانيات، جداول بيانات، لا شيء مثير، لا شيء اجتماعي. بعد تقاعدها، شعرت بالتجاهل حتى نشرت ذات يوم قصتها على منتدى سويدي: “هكذا ساعدت ابنتي على سداد ديونها الدراسية في أربع سنوات دون أي تكلف.”
هذا ما تمنيت لو أخبرني به أحد عندما كنت في الثلاثين. الآن اسأل نفسك، من يحتاج هذا الآن؟ جار، ابن صديق، شخص ما على الإنترنت.
تهانينا. لقد كتبتَ للتو أول رسالة إرشادية لك. الخطوة التالية هي ببساطة مشاركتها مع آخرين. الأمر لا يتعلق ببدء مشروع تجاري، بل ببدء حركة جديدة. لأن التجارة مع الله، لا يضيع معروف عندها. الألم قابل للتعويض، والندم يمكن أن يصبح أداة تستفيد منها وتُساعدك أو تُساعد الآخرين على اتخاذ خيارات أفضل، والدروس لا تُقدر بثمن، ولكن فقط إذا استفدتَ منها.
الإرث والخبرات السابقة التي اكتسبتها لا لا تُخلّد ذكراها إلّا بمساعدة الآخرين على تجنّب الأخطاء التي تعرضت لها ونجوت منها بصعوبة. في هامبورغ، ألمانيا، ممرضة متقاعدة تُدعى أوتي كانت غارقة في الحزن بعد أن فقدت زوجها وأختها ومريضاين كانت تُحبهما حبًا عميقًا، قالت: “كنتُ بحاجةٍ إلى مكانٍ أمارس البكاء فيه، لكنني لم أرغب في العلاج النفسي، بل أردتُ جماعة أتواصل معهم”. لذلك، أنشأت حلقةً لممارسة الحزن في شقتها.
حضر ثلاثة أشخاص في المرة الأولى، ثم ثمانية، ثم عشرون. الآن، تقود أوتي حلقات توعية بالحزن في المكتبات العامة، وغرف زووم الإلكترونية، وحتى المستشفيات مجانًا. ليس لديها منصة، لكنها غيّرت حياة أكثر من 400 شخص، كل ذلك بفضل ما مرت به من تجارب في الحزن، لا سيرتها الذاتية. إذًا، إليكم السؤال الحقيقي: هل ستحملون حكمتكم معكم إلى القبر ولا تشاركونها مع آخرين، أم ستبدؤون باستخدامها باعتبارها قيمة أو عملة إلهية روحية؟ قيمة حياتك الحقيقية ليست بالأموال أو الممتلكات، بل فيما تُقدمه، والأثر الذي تُحدثه. لأن هذه هي الحقيقة.
أنت بحاجة إلى الشجاعة لتتحدث بما تعرفه. ليس من السهل دائمًا مشاركة تجاربك الحقيقية – وخاصةً فيما يتعلق بأخطائك ومخاوفك وإخفاقاتك – لكن تحتاج إلى صراحة قوية. قد تكون قصتك الشخصية “أداة يمكن الاستفادة منها. كل ما مررت به، بما في ذلك إخفاقاتك وعيوبك، يمكن أن تصبح أدوات تساعد وتعلم الآخرين من بعدك وتكون مصدر إلهام لهم.
دعني أوضح لك خطوة بخطوة كيف تحول قصة حياتك إلى شيء منظم ومفيد – رسالة، أو برنامج إرشاد، أوأي شيء آخر يدوم ويفند كل الخرافات التي حيكت حول الشيخوخة. في لندن، هناك رجل يُدعى تريفور سيمونز، ميكانيكي سيارات متقاعد. في الثالثة والسبعين من عمره، كان يعتقد أن لا أحد يهتم بقصته. لم يكن مشهورًا. لم يلتحق بالجامعة. لم يؤلف كتابًا. لكن حفيدته، البالغة من العمر عشر سنوات، كانت تجد صعوبة في الدراسة، وتتعرض للتنمر والقلق. في أحد الأيام، جلس تريفور معها وأخبرها كيف تعرض هو في طفولته للضرب والإذلال، ووصفه البعض بأنه عديم القيمة. لكن هذا هو السبب الذي جعله يتعلم كيف تعمل الآلات، لأنها لم تكذب عليه.
لقد منح حفيدته نموذجًا للصمود والتعافي. بل أكثر من ذلك، نشرت حفيدته هذا النموذج. انتشر على نطاق واسع. وعلق عليه الآلاف. لماذا؟
لأن صدمة نفسية تعرض لها رجل وبقيت تلازمه، حتى لو كانت بينه وبين نفسه قد تصبح ركيزة لجيلٍ آخر يتوارثها ويسير على منوالها. دعني أخبرك عن دينيس في أوهايو. مطلقة، وتعرضت إلى إفلاسين، وابنها في مركز إعادة تأهيل. كانت تعتقد أن حياتها قصة تحذيرية للقراء، إذ لا تُركز فيها إلّا على الأخطاء أو الإخفاقات أو الآلام التي تعرضت لها. فإذا نظرت إلى حياتها بهذه الطريقة، فإنها تعتقد أن تجاربها ليست سوى تحذير، وأن قيمتها سلبية في الغالب، وليس قصة تُروى لإلهام الناس وتُركز على النمو والأمل ودروس يستفيد منها الآخرون للتغلب على الصعوبات.
بدأت بكتابة رسائل للأمهات اللواتي يعانين من صعوبات، لم تكن تُلقي خطابًا، وإنما كانت تكتب كما لو كانت تكتب لنفسها، قبل عشر سنوات. اليوم، تُدير دينيس حلقة إرشادية غير ربحية للأمهات العازبات في خمس ولايات. لا تملك منصة، ولا شهرة، مجرد قصة تُروى. بصراحة، القصة التي تعتقد أنها تُفقدك أهليتك هي نفسها القصة التي تجعل الناس يثقون بك. لستِ بحاجة إلى كلمات مُنمّقة. تحتاج فقط إلى ثلاث لحظات. أولًا، ما وقع. أخبرهم ماذا أصابك. واللحظة التي شعرت فيها بعدم التقدير؟
دعوني أريكم هذا عمليًا من كندا. في مدينة هاليفاكس، نوفا سكوشا، افتتح رجل يُدعى أمير مقهى، ليس بهدف الربح، بل للأشخاص الذين يتعافون من الإدمان. لماذا؟ لأنه قبل عشر سنوات، كان ينام في الشارع. عرض عليه أحد الغرباء فنجان قهوة وتحدث معه. هذا كل شيء. قال أمير إن فنجان القهوة أعاده إلى طبيعته. لذلك عندما تعافى من الإدمان، افتتح مقهى يقدم قهوة ومكان للحديث يعتمد ريعه على التبرعات. اليوم، أصبح مقهاه ملتقىً للذين يشعرون بأن لا أحد يعتني بهم. قصته مرسومة على الحائط. ذات مرة كنت لا شيء، مجهول لا أحد يقدرني، ثم رآني أحدهم وقدرني، والآن أراك وأقدرك. هذه هي قوة سرد القصص.
عندما تروي قصتك لمساعدة الآخرين – فأنت لا تُحسن صورتك، بل تُغير حياة الناس وتسهم في تكوين مجتمعًا سويًا.
إذا تجاوزتَ الأربعين، فقد تجاوزتَ شيئًا لم يتجاوزه غيرك بعد. وهذا يجعل قصتكَ بمثابة خريطة. مشاركتك قصتك ليست من الأنانية في شيء بل عدم المشاركة هي الأنانية بحد ذاتها. مشاركتها تعتبر بذرة شفاء لشخص آخر. لا تحتاج أن يسمعها ملايين المتابعين، بل إلى مستمع واحد وقلب واحد. لأنه إذا غيّرت قصتك حياةً شخص فقط، فقد استحقت تجشم عناء سردها ومشاركتها. دعني أخبرك ماذا يحدث عندما لا تروي قصتك. سيروي قصته شخصٌ آخر غيرك، لكنه يفتقر إلى الحكمة والصدق واللطف. قد يُحاول بعضهم تشتيت انتباهك أو تقديم حلول سطحية، فلا تترك الضجيج الصاخب يتغلب على العمق النافع.
هكذا تبدأ. ليس بالشهرة، ولا بعدد الإعجابات، بل بالحب. التأثير الحقيقي لا يأتي من السعي وراء الشهرة أو مقاييس منصات التواصل الاجتماعي، بل من الاهتمام الصادق بالآخرين وخدمتهم والتواصل معهم. من المفترض ألُا تنتهي حياتك بصمت لا ينتفع بتجاربك وحكمتك أحد، بل من المفترض أن يكون لها صدىً نافع. فلكل شخص تجارب أو حكمة أو قصص تستحق المشاركة. هدفك هو ترك أثر نافع ودائم في مجتمعك أو أسرتك، وأن يكون لأفعالك، أو كلماتك، أو دروسك، أو تجاربك في الحياة صدى يتجاوزك إلى غيرك. اعتني بخدمة الآخرين ومحبتهم، لا تسعى وراء الشهرة. قيمة حياتك تأتي من الأثر الدائم الذي تتركه والصدى النافع للآخرين الذي يتردد من بعدك ويصل إلى الآخرين
المصدر الرئيس