أقلام

تهاني الصبيح: تمثلات الذات والمرأة ورسالة الوجود في فضاء الشعر العربي( الحلقة الثالثة)

د حجي الزويد

سمات الهوية الشعرية عند تهاني الصبيح

1. الحس الأنثوي والبوح الوجداني

الحس الأنثوي في شعر تهاني الصبيح ليس مجرد انعكاس لعاطفة رقيقة، بل هو طاقة إبداعية قادرة على تحويل التجربة الشخصية إلى لغة إنسانية شاملة. الأمومة عندها تتحول إلى رمز للرعاية والوفاء والخلود، والحنين يصبح نافذة على الذاكرة الجماعية. فهي لا تكتب المرأة بوصفها كائناً هشاً، بل كياناً قادراً على منح الحياة واللغة معنى جديداً. هذا البوح الوجداني العميق يفتح النصوص على مساحات أوسع من العاطفة الفردية، ليجعلها تجربة مشتركة بين الشاعرة والقارئ، وبين الأنا والآخر. ومن هنا، تتشكل هوية شعرية تنبني على التوازن بين الرقة الأنثوية والقوة الوجدانية.

2. الرمزية والبعد الكوني

النصوص عند تهاني الصبيح تنسج شبكة من الرموز التي تحرر القصيدة من حدودها الزمنية والمكانية. فالنهر عندها ليس ماءً جارياً فحسب، بل رمز للحب والارتواء والخلود. والغيوم ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل استعارة عن الحنين المعلّق بين السماء والأرض. أما المرايا، فتصبح انعكاساً لرحلة الغربة الداخلية التي يعيشها الإنسان في بحثه عن ذاته. هذه الرمزية تفتح النصوص على بعد كوني يجعلها قابلة للتأويل المتعدد، وتمنح القارئ حرية الدخول إلى عوالمها من زوايا مختلفة. وبذلك يتحول شعرها إلى فضاء مفتوح للقراءة والتفسير، لا يكتفي بوصف الواقع بل يخلقه من جديد.

3. التناص مع النصوص المقدسة

من السمات الأكثر حضورًا في تجربة تهاني الصبيح الشعرية توظيفها الواعي والعميق للنصوص المقدسة، سواء القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو الرموز التاريخية ذات البعد الديني. هذا التناص ليس زخرفًا سطحيًا، بل هو بنية دلالية متجذرة في نصوصها، تجعل شعرها مشبعاً بالقداسة الروحية من جهة، وبالمعاصرة الفنية من جهة أخرى.

حين تستدعي شخصية يوسف، فهي لا تستحضر القصة القرآنية في بعدها التاريخي فحسب، بل تستلهم رمز الحلم والوفاء والجمال والصبر على البلاء. قولها: «يا ريح يوسف من يجاري لهفتي» يفتح النص على طبقات متعددة من المعنى؛ فالقارئ يتذكر قصة يوسف وامتحانه الطويل، لكنه في الوقت ذاته يتماهى مع اللهفة الإنسانية العاطفية التي تسكن النص، فيغدو يوسف رمزاً للشوق الكوني وللحلم الذي يتجاوز حدود الفرد إلى الجماعة.

كما أن استدعاءها لهاجر في ديوانها «وجه هاجر» يمثل عمقاً رمزياً مضاعفاً. هاجر ليست مجرد شخصية تاريخية، بل أيقونة للغربة، والبحث عن الارتواء في أرض الجدب، ورمز لصوت المرأة في مواجهة الصحراء والغياب. حين تجعل هاجر مرآة للغربة، فإنها في الحقيقة تستدعي رحلة وجودية يعيشها كل إنسان في مواجهة الوحدة والبحث عن الأمان. تقول في إحدى قصائدها:

«كانت بيَ الصحراء حين سمعتها

تبكي على الطفل الذي ملأ العرا

في غير ذي زرعٍ يزمزم حيرتي

ماءٌ بقدرِ السعي فجّره الثرى»

هذا المقطع يجمع بين الرمز الديني (زمزم) والتجربة الإنسانية، ليحوّل حكاية هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام إلى استعارة عن السعي الإنساني الدائم نحو الخلاص والارتواء.

أما زمزم، فيحضر في نصوصها بوصفه رمزاً لليقين والارتواء الروحي. زمزم هنا ليس ماءً فحسب، بل هو منبع الطمأنينة والإيمان وسط قلق الحياة، ومجاز للثبات في مواجهة التيه. بهذا التحويل، تنتقل الرموز من سياقها الديني إلى سياق شعري يتسع للمعنى ويحتوي القارئ المعاصر.

التناص عند تهاني الصبيح لا يقف عند حدود النقل أو الاستدعاء المباشر، بل يقوم على إعادة إنتاج الرمز وإدخاله في شبكة من الصور الشعرية الجديدة. فهي توظف هذه الرموز لتؤكد أن المقدس ليس مجرد ماضٍ ساكن، بل طاقة دائمة تتجدد في النص الشعري وتستجيب لأسئلة العصر. وبهذا يتحول شعرها إلى حوار حيّ بين الماضي والحاضر، بين ما هو خالد في الذاكرة الروحية، وما هو متجدد في التجربة الإنسانية اليومية.

ولعل أبرز ما يميز هذا التناص أنه يحقق في نصوصها أكثر من وظيفة:

• وظيفة جمالية: إذ يمنح النص عمقاً وثراءً في الصورة والمعنى.

• وظيفة رمزية: إذ يحول الرموز الدينية إلى إشارات إنسانية تتجاوز الانتماء الفردي.

• وظيفة وجودية: إذ يفتح النصوص على أسئلة الحنين واليقين والغربة، ويجعلها مرايا للتجربة الإنسانية في أبعادها الكبرى.

ولنا أن نلاحظ أن هذه التقنية تعكس ثقافة الشاعرة القرآنية والروحية، وتكشف في الوقت ذاته عن وعيها بدور الشعر كجسر يصل المقدس باليومي، والتراث بالحداثة، والذاكرة بالمعاصرة.

بهذا المعنى، يصبح التناص مع النصوص المقدسة عند تهاني الصبيح ليس مجرد سمة أسلوبية، بل هو ركيزة لهويتها الشعرية، ومنبع أصيل يمدّ نصوصها بطاقة روحانية وجمالية تجعلها قريبة من القارئ المؤمن، وفي الوقت نفسه مفتوحة على القارئ الإنساني الباحث عن المعنى في أي مكان وزمان.

التناص مع النصوص المقدسة في تجربة تهاني الصبيح:

واحدة من أبرز سمات شعر تهاني الصبيح توظيفها العميق للتناص مع القرآن الكريم والحديث الشريف والرموز التاريخية والدينية. فهي لا تستحضر النصوص المقدسة كاقتباس حرفي أو محاكاة شكلية، بل تعيد إنتاجها في سياق معاصر يمنحها حياة جديدة ويجعلها جزءًا من النسيج الشعري.

فيوسف عندها يتحول من نبي الحلم والوفاء إلى رمز إنساني خالد للشوق والحنين الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان. في قصيدتها «ريح يوسف» تقول:

يا ريح يوسف من يجاري لهفتي

لو للحنين مسافةٌ ونطاقُ؟

هذا البيت لا يكرر القصة القرآنية، بل يستحضر رمز يوسف كمعادل للشوق الروحي الذي يسكن كل إنسان.

أما هاجر، فهي عندها ليست مجرد شخصية تاريخية مرتبطة بسياق السيرة، بل أيقونة للغربة والصبر والبحث عن المعنى. في ديوانها «وجه هاجر» نجد هذا المزج العميق بين الرمزية الدينية والتجربة الإنسانية:

الغربة هاجر تسكن المرايا

والماء زمزم يسيل من عيون الروح

هنا يتحول زمزم إلى ماء رمزي يروي ظمأ الروح، وتتحول الغربة إلى مرآة للذات، بما يجعل النص ينفتح على تأويلات وجودية معاصرة.

كما أن استدعاءها لزمزم، رمز اليقين والارتواء في المخيال الإسلامي، يجعل النصوص تستحضر معنى الثبات الروحي وسط صحراء الاغتراب. فزمزم في قصائدها ليس بئرًا ماديًا، بل رمزًا للينبوع الداخلي الذي يهب الحياة للنفس التائهة.

وليس بعيدًا عن ذلك، تستحضر الصبيح رموزًا قرآنية أخرى مثل المطر والسحاب والريح، فتمنحها أبعادًا روحية عميقة. ففي «ذاكرة الطين» تقول:

وأنا التي استسقت وأنت سحابها

تهمي ودمعي في لقاكَ غزيرُ

فهنا يصبح السحاب رمزًا للرحمة، واللقاء مطرًا يغسل جراح الغياب، وهو تناص غير مباشر مع صورة المطر في القرآن كآية للخصب والإحياء.

بهذا التوظيف، يتحول النص الشعري عندها إلى مساحة حوار بين الماضي والحاضر، بين المقدس واليومي. النصوص المقدسة لا تبقى محصورة في إطارها التاريخي، بل تدخل في نسيج التجربة الفردية والجماعية، فتمنح شعرها بعدًا روحيًا يتجاوز الجمالية إلى الدلالية.

إن قوة هذا التناص تكمن في أنه لا يفرض على القارئ قراءة دينية أو عقائدية، بل يفتح أمامه فضاءً متعدد التأويلات، يجمع بين الموروث الروحي العريق والحساسية الجمالية الحديثة. وبهذا تبرهن تهاني الصبيح على أن النصوص المقدسة ليست مادة تراثية جامدة، بل طاقة رمزية متجددة تعيش في الوجدان الجمعي وتُعيد صياغة الحاضر.

مقارنة في توظيف التناص المقدس:

في الشعر العربي الحديث والمعاصر، كان التناص مع النصوص المقدسة – خصوصًا القرآن الكريم – حاضرًا عند كثير من الشعراء والشاعرات، لكن كل منهم وظفه بطريقة مختلفة بحسب تجربته ورؤيته.

•نازك الملائكة: وظفت النص القرآني بشكل رمزي أكثر منه روحي، فكانت تستعير من ألفاظه وصوره لتصوغ خطابًا شعريًا وجوديًا أو احتجاجيًا، لكن النص عندها ظل أقرب إلى الجانب اللغوي والفني منه إلى الإيحاء الروحي المباشر.

• فدوى طوقان: استحضرت الرموز الدينية في سياق المقاومة والوطن، فجعلت من قصة يوسف أو من آيات الصبر والعذاب رموزاً لمعاناة الشعب الفلسطيني وصموده. عندها يتحول التناص إلى أداة سياسية ووسيلة لتأكيد الهوية الوطنية.

• سعاد الصباح: استخدمت التناص بوصفه رافداً عاطفياً أو جمالية زخرفية، تستحضر به الإيقاع القرآني لتعزيز موسيقى النص، لكنها لم تتعمق كثيراً في إعادة إنتاج الرمز أو تحويله إلى رؤية فلسفية وجودية.

أما تهاني الصبيح، فتوظيفها للتناص يختلف في ثلاث نقاط أساسية :

1. الروحانية الوجودية: لا تكتفي باستدعاء الرموز المقدسة لغايات جمالية أو سياسية، بل تجعلها أفقاً للتأمل في قضايا الحب والغربة واليقين والحنين. يوسف عندها ليس مجرد رمز للصبر أو الجمال، بل استعارة للشوق الإنساني الكوني. هاجر ليست مجرد أم أسطورية، بل رمز لرحلة الاغتراب التي يعيشها كل إنسان.

2. التأنيث العميق للرمز: بخلاف كثير من الشاعرات اللواتي استعملن الرمز الذكوري (يوسف، موسى، عيسى)، تعطي تهاني مركزية لرمز هاجر بوصفها أنثى تواجه الصحراء وحدها. بهذا، تستعيد صوت المرأة في النص المقدس وتعيد إنتاجه في سياق شعري حديث يمنح الأنثى دور البطولة.

3. الجمع بين القداسة واليومي: في نصوصها، يتحول المقدس إلى لغة معاصرة تلمس القارئ في حياته اليومية. زمزم عندها ليس فقط ماءً مباركاً، بل رمزاً لليقين في مواجهة القلق اليومي، وللارتواء وسط صحراء الروح. بهذا يتحول النص إلى حوار حيّ بين القارئ وذاكرته الدينية من جهة، وبين قضاياه المعاصرة من جهة أخرى.

إذن، فرادة تهاني الصبيح تكمن في أنها تمزج بين قداسة الرمز وكونيته الوجودية، فتجعل التناص المقدس عندها ليس مجرد استدعاء للذاكرة، بل طاقة دلالية مفتوحة تتجدد في كل قراءة

4. المزج بين التراث والحداثة

شعر تهاني الصبيح متجذر في التراث الأحسائي والعربي، لكنه لا يبقى أسيراً له أو حبيساً في قوالبه التقليدية. النخيل، الصحراء، القوافل، الماء، والمكان الحساوي بتفاصيله اليومية، كلها مفردات تتكرر في نصوصها، لكنها لا تظهر بوصفها صوراً جامدة أو مقتبسة من الماضي، بل تُعاد صياغتها بلغة حديثة وصور مبتكرة تجعلها تنبض بالحياة من جديد. فهي تدرك أن الشعر لا يمكن أن يقطع صلته بالجذور، إذ الجذور هي ما يمنحه ثباتاً وعمقاً، لكنه في الوقت ذاته مطالب بأن يتجدد ليواكب تحولات العصر وأسئلته الجديدة.

هذا المزج يظهر في قدرتها على استحضار رموز تراثية – كهاجر وزمزم ويوسف – ومنحها معنى يتجاوز سياقها الأصلي، لتصبح استعارات عن الغربة واليقين والحب. كما أنها توظف الموروث الشعبي الأحسائي: النخلة رمزاً للخصب والعطاء، القوافل رمزاً للرحيل والبحث، الصحراء رمزاً للاتساع والاختبار. غير أن هذه الصور لا تأتي على هيئة ترديد ماضوي، بل بصياغة عصرية تستوعب الحداثة وتعيد تفسيرها في ضوء الراهن.

ولعلنا نلمس ذلك بوضوح في ديوانها «وجه هاجر» حين تستحضر صورة الأم هاجر رمزاً للصبر والاغتراب لتقول:

الغربة هاجر تسكن المرايا

والماء زمزم يسيل من عيون الروح

وفي قصيدتها «ريح يوسف» تستدعي رمز يوسف لتجعله استعارة عن الحنين الكوني:

يا ريح يوسف من يجاري لهفتي

لو للحنين مسافةٌ ونطاقُ؟

أما في «ذاكرة الطين» فتعود إلى صورة المطر التي ارتبطت بالخصب في المخيال العربي القديم، لكنها تعيد صياغتها بصورة وجدانية حديثة:

وأنا التي استسقت وأنت سحابها

تهمي ودمعي في لقاكَ غزيرُ

بهذا الشكل، يتشكل نصها كجسر بين الماضي والحاضر، يجمع بين الحنين إلى الأمس والتطلع إلى الغد. إن استدعاءها للموروث يمنح شعرها أصالة، بينما قدرتها على إعادة صياغته تمنحه فرادة معاصرة. وبذلك تحقق نصوصها معادلة دقيقة: الوفاء للذاكرة الثقافية من جهة، والانفتاح على آفاق التجديد من جهة أخرى. هذه المعادلة هي ما يجعل شعرها قادراً على مخاطبة القارئ العربي المعاصر دون أن يفقد جذوره، وقادراً أيضاً على مخاطبة الأجيال المقبلة باعتباره نصاً يعيش في الزمن لا خارجه.

البعد الوجودي والفلسفي:

قصائد تهاني الصبيح ليست مجرد بوح عاطفي يتكئ على الانفعال اللحظي، بل هي مشروع تأملي مفتوح على الأسئلة الوجودية الكبرى. في نصوصها يلتقي الشعر بالفلسفة ليشكلا معاً رؤية شاملة للذات والكون والحياة. هي شاعرة لا تكتفي بالتصوير أو التعبير، بل تحاول أن تجعل من القصيدة أداة معرفة ووسيلة لفهم معنى الوجود.

حين تكتب عن الحرية، فإنها لا تنظر إليها بوصفها مطلباً اجتماعياً فقط، بل كحالة وجودية لازمة لولادة الشعر. الحرية عندها هي الشرط الأول لوعي الذات بذاتها، وهي الطاقة التي تتيح للقصيدة أن تحلّق بعيداً عن القيود. لذلك تصرّح: «الشاعر لا يولد إلا حراً»، لتجعل من فعل الكتابة ذاتها شكلاً من أشكال الانعتاق.

أما الحنين، فيتحول في قصائدها من مجرد ذكرى عاطفية إلى سؤال فلسفي حول علاقة الإنسان بجذوره وذاكرته. الغربة عندها ليست غياب مكان أو فقد أحبة، بل هي حالة أنطولوجية يعيشها الإنسان في مواجهة الزمن والتيه. لذلك نجدها تستدعي رموزاً مثل هاجر أو زمزم لتجعل من الحنين بحثاً عن ارتواء الوجود، وعن يقين يبدّد العطش الروحي.

وفي حديثها عن اليقين، نجدها لا تطرحه كإيمان جامد أو عقيدة نهائية، بل كمدار للتجلي الروحي. اليقين عندها ليس إغلاقاً للأسئلة، بل انفتاحاً عليها من زاوية أعمق، حيث يتحول النص الشعري إلى مسار للتسامي والارتقاء. عندما تقول: «وبلغتُ من فعل اليقين مداركاً»، فهي تكشف عن لحظة تصالح داخلي تجعل الشعر معبراً نحو أفق أرحب من الطمأنينة.

هذا البعد الفلسفي يجعل نصوصها أشبه بـ مرايا للوجود، يقرأ فيها القارئ أسئلته الخاصة. فهي لا تكتب عن ذاتها وحدها، بل تضعنا جميعاً أمام أسئلة: ما معنى أن نحب؟ ما معنى أن نغترب؟ ما معنى أن نبحث عن يقين وسط الفوضى؟ هنا تتجاوز حدود التجربة الفردية لتصبح صوتاً إنسانياً عاماً.

النزعة الوجودية في شعرها تتجلى كذلك في صورها الشعرية؛ فهي لا ترى في المطر مجرد ماء، بل رمزاً للتجدد والتطهير. ولا ترى في النهر مجرد مجرى مائي، بل استعارة للحب الذي يغمر ويحيي. حتى الشمس والقمر والغيوم تتحول إلى رموز فلسفية تعبّر عن الصراع بين النور والظلام، بين الظهور والغياب، بين الحضور والعدم.

بهذا المعنى، فإن شعرها ليس ترفًا لغويًا أو زخرفة بلاغية، بل موقف من الحياة، وإرادة لفهم الوجود، وسعي لإضفاء معنى على التجربة الإنسانية. إنها تكتب بوعي أن الشعر يمكن أن يكون فلسفة أخرى، لكن بلغة الوجدان والصور، لا بلغة المنطق والمفاهيم.

إن التقاء الشعرية بالفلسفة في نصوصها يجعل القارئ يعيش التجربة على مستويين: متعة جمالية في الصور واللغة، وتأمل عقلي في الدلالات والأسئلة. ومن هنا يتضح أن تهاني الصبيح قد نجحت في صياغة شعر فلسفي وجداني، يُصالح بين الحس المرهف والعقل المتأمل، ويمنح نصوصها قدرة على الاستمرار في الذاكرة، لأنها لا تخاطب العاطفة وحدها، بل تخاطب الفكر والروح معاً.

مثال تطبيقي: قصيدة “ريح يوسف”

في قصيدتها ريح يوسف تقول:

يا ريح يوسف من يجاري لهفتي

لو للحنيـن مسافـةٌ ونطـاقُ؟

هنا تتحول شخصية يوسف القرآنية إلى استعارة وجودية عن الحنين الإنساني الكوني. يوسف لم يعد مجرد رمز قرآني للجمال أو الوفاء، بل صار رمزاً للبحث عن الطمأنينة وسط الغياب والتيه. الريح التي تحمل أثر يوسف ليست ريحًا تاريخية، بل ريح الروح التي تبحث عن خلاصها في مواجهة قلق الزمن.

ثم تضيف:

كالغيمة الحبلى يكدّسني الهوى

وعلى ذبول الوالهين أُراقُ

هذه الصورة تجعل من العاطفة طاقة كونية: الغيمة التي تحمل المطر هي رمز للشاعر ذاته، المليء بالوجد، القادر على الانسكاب فوق أرض العاشقين الذابلة. هنا يتحول الحب إلى خلاص جماعي، لا مجرد تجربة شخصية، وكأنها تقول إن الشعر نفسه هو مطر يروي عطش الأرواح.

وبهذا المثال، يتجلى البعد الفلسفي الوجودي في نصوصها؛ فهي لا تكتب عن ذاتها وحسب، بل تجعل من النص مجالاً لتجربة إنسانية عامة، تُسائل الوجود، وتبحث عن اليقين، وتحوّل الحب والحنين إلى أدوات لفهم معنى الحياة.

مثال تطبيقي: قصيدة ذاكرة الطين

تقول تهاني الصبيح:

وأنا التي استسقت وأنت سحابها

تهمي ودمعي في لقاكَ غزيرُ

في هذا البيت، يتحول الحنين إلى صورة مطرية تتجاوز حدود البوح العاطفي لتصبح رمزاً فلسفياً عن حاجة الإنسان للارتواء الروحي. الاستسقاء هنا ليس مجرد طلب للماء، بل بحث عن معنى، عن يقين يروي عطش الكائن في صحراء وجودية. السحاب رمز للآخر/المطلق، بينما الأنا الشاعرة هي الأرض العطشى الباحثة عن الخصب.

ثم تقول:

كانت بيَ الصحراء حين سمعتها

تبكي على الطفل الذي ملأ العرا

في غير ذي زرعٍ يزمزمُ حيرتي

ماءٌ بقدرِ السعي فجّرهُ الثرى

هذا المقطع من أعمق ما كتبته تهاني الصبيح، إذ يجمع بين الرمز الديني (زمزم وهاجر) والبعد الوجودي. الصحراء هنا ليست مجرد مكان جغرافي، بل حالة أنطولوجية تعبّر عن الخواء والغياب والتيه. بكاء الصحراء يتحول إلى استعارة عن معاناة الإنسان في مواجهة العدم، بينما زمزم يرمز إلى اليقين الذي لا يُمنح اعتباطًا، بل يُفجَّر بقدر السعي.

إنها رؤية فلسفية تقول لنا: الحياة لا تعطي ارتواءها إلا لمن يسعى، والمعنى لا يُكتشف إلا لمن يغامر في دروب القلق والتيه. بهذا، تتحول قصة هاجر وإسماعيل عليهما السلام من حدث ديني إلى استعارة عن المصير الإنساني كله: رحلة عطش، ثم سعي، ثم يقين يفجر ماء الحياة.

قصائد تهاني الصبيح ليست مجرد بوح عاطفي أو سرد وجداني، بل هي أيضًا رحلة بحث عن أسئلة وجودية كبرى: ما معنى الحرية؟ ما جدوى الحنين؟ كيف يتحول الحب إلى خلاص؟ إن نصوصها تتحول إلى مرايا للتأمل الفلسفي، حيث يوضع القارئ أمام قلقه الوجودي الخاص، فيجد في الكلمات صدىً لأسئلته التي قد يخشى البوح بها.

في شعرها، لا يظهر الحنين كحالة نفسية عابرة، بل كوجود دائم يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم. تقول في «ريح يوسف»:

يا ريح يوسف من يجاري لهفتي

لو للحنين مسافةٌ ونطاقُ؟

فالحنين هنا ليس مجرد توق إلى شخص أو مكان، بل حالة وجودية تتجاوز حدود الجغرافيا والزمن، لتصبح تجربة إنسانية شاملة.

أما اليقين عندها، فيأتي بوصفه مدارًا للتجلي الروحي، لا مجرد إيمان تقليدي. في إحدى نصوصها تقول:

وبلغتُ من فعل اليقين مداركاً

حتى التباسي رغم ريبته… درى!

هنا يتحول اليقين إلى فعل، وإلى مدار يفتح أمام الذات أفقًا للتجاوز، حيث يصبح الشك نفسه طريقًا إلى المعرفة.

الغربة أيضًا تأخذ بعدًا فلسفيًا في ديوانها «وجه هاجر». فهاجر ليست مجرد شخصية تاريخية، بل استعارة عن الاغتراب الإنساني والبحث الدائم عن المعنى:

الغربة هاجر تسكن المرايا

والماء زمزم يسيل من عيون الروح

بهذا التوظيف تتحول الغربة من تجربة شخصية إلى سؤال إنساني مفتوح عن الهوية والانتماء والوجود.

الشعر عند تهاني الصبيح يصبح محاولة لفهم العالم، والتصالح مع أزماته، وفتح أفق للمعنى وسط الفوضى. فهو ليس ترفًا جماليًا، بل ممارسة فلسفية تسعى إلى ملامسة جوهر الإنسان. وهذا ما يجعل نصوصها تتجاوز الحدود الجمالية إلى فضاء الأسئلة الكبرى، حيث تلتقي الشعرية بالفلسفة في نص واحد.

إن هذا البعد الوجودي يجعل شعرها قريبًا من المتلقي المعاصر الذي يبحث عن معنى في زمن التحولات، ويمنح نصوصها قدرة على البقاء لأنها تطرح أسئلة أبدية لا تنتهي، أسئلة عن الحرية، الحب، الغربة، واليقين.

خلاصة الأمثلة:

في ريح يوسف، يتحول الشوق الفردي إلى استعارة عن الحنين الكوني.

وفي ذاكرة الطين، تتحول الغربة الصحراوية إلى سؤال عن الوجود، ويصبح زمزم رمزاً فلسفياً عن معنى السعي والإيمان.

بهذه الأمثلة، يتضح أن البعد الوجودي والفلسفي عند تهاني الصبيح ليس مجرد فكرة أو نزعة، بل ممارسة شعرية متكررة في نصوصها، تجعل قصائدها مرايا للتجربة الإنسانية العميقة، حيث تلتقي اللغة الشعرية بالأسئلة الكبرى

6. البنية الجمالية واللغة

لغة تهاني الصبيح مشغولة بدقة ووعي، فهي لا تترك المفردة عابرة، بل تصوغها كما ينحت الفنان حجراً أو كما يختار الخطاط شكل الحرف. المفردة عندها ليست وسيلة محايدة، بل كائن حيّ يحمل ظلالًا ومعاني متعددة. لذلك نلمس في نصوصها حرصًا على اختيار الكلمة التي تؤدي الدور الجمالي والدلالي معاً، فلا زيادة ولا ترهل، بل اقتصاد لغوي يجعل النص متماسكًا ومفتوحًا للتأويل في الوقت ذاته.

في بناء صورها الشعرية، تعتمد على التشبيه والاستعارة والطباق، لكنها توظفها بوعي حتى لا تتحول إلى تزيين زائد يثقل النص. التشبيه عندها يفتح أفق الصورة، والاستعارة تجعل المعنى يتجاوز حدوده الظاهرة، والطباق يمنح النص حيوية الإيقاع وتوتر المعنى. فعندما تقول: «وترٌ أنا فلتعزفي الوترا»، فهي لا تكتفي بالبوح الشخصي، بل تجعل من نفسها أداة موسيقية، أيقونة للحن يتجاوزها إلى القارئ، فتتحول الذات إلى رمز للوجود الموسيقي نفسه.

جمالياتها لا تأتي من الزينة اللفظية، بل من الصفاء التعبيري؛ فهي قادرة على أن تمنح الكلمة أكثر من دلالة، بحيث يقرأها القارئ في أفق عاطفي، وآخر فلسفي، وثالث رمزي. من هنا، تصبح النصوص متعددة الطبقات، قابلة للتأويل في ضوء خبرة القارئ وثقافته.

البنية الشعرية في نصوصها تتسم بالانسجام بين الإيقاع الداخلي والبعد الدلالي. فهي لا تعتمد على الإيقاع الخارجي وحده – الوزن والقافية – بل تصنع موسيقى داخلية من خلال التكرار، والتنغيم، وتوزيع الجمل الشعرية. هذه الموسيقى الداخلية تمنح النصوص انسياباً سلساً يلامس الأذن والوجدان معاً، وفي الوقت نفسه تعمّق المعنى.

ومن هنا، يمكن القول إن شعرها يجمع بين البساطة والعمق: البساطة في انسياب اللغة وسهولة التلقي، والعمق في تعدد الدلالات والرموز التي تحملها الكلمة. وهذا التوازن هو سرّ الدهشة في نصوصها؛ إذ إن القارئ يجد نفسه أمام لغة مألوفة من حيث البنية، لكنها تفتح معاني جديدة غير متوقعة.

بلاغتها تتجلى أيضاً في قدرتها على تحقيق الانسجام البنائي؛ فهي لا تضع الصورة الشعرية منفصلة عن سياقها، بل تجعلها جزءًا عضويًا من بنية النص. فالصورة ليست زينة تُضاف، بل حلقة في سلسلة الدلالات التي يبنيها النص منذ بدايته حتى نهايته. على سبيل المثال، في قصيدتها ذاكرة الطين، نجد أن صورة الصحراء، والدمع، والماء، كلها ليست عناصر منفصلة، بل نسيج متكامل يعكس رحلة الاغتراب والسعي نحو اليقين.

بهذا الأسلوب، تصبح البنية الجمالية في شعرها منسجمة ومتماسكة، تجعل النصوص قادرة على إثارة الدهشة حتى بعد إعادة قراءتها مرات عديدة، لأن كل قراءة تكشف عن طبقة جديدة من المعنى أو البنية.

أمثلة تطبيقية على البنية الجمالية:

• في قصيدة ريح يوسف، تقول:

يا ريح يوسف من يجاري لهفتي

لو للحنين مسافة ونطاقُ؟

نجد هنا أن الاقتصاد اللغوي واضح، فبكلمتين أساسيتين: “ريح” و”يوسف”، تستحضر الشاعرة رمزًا قرآنيًا، ومشهدًا وجدانيًا، وصورة شعرية مكثفة تحمل أبعاداً نفسية وروحية وفلسفية معاً.

• وفي وجه هاجر، تقول:

كانت بيَ الصحراء حين سمعتها

تبكي على الطفل الذي ملأ العرا

هنا نجد أن الصورة ليست مجرد وصف للمكان (الصحراء) بل جزء من نسيج رمزي ودلالي أوسع: الصحراء = الغربة، البكاء = الحنين، الطفل = الامتداد. وبذلك تتداخل المفردات في بنية واحدة متماسكة تحمل أبعاداً جمالية وفلسفية.

• وفي ذاكرة الطين:

وأنا التي استسقت وأنت سحابها

تهمي ودمعي في لقاكَ غزيرُ

الصورة هنا تتجلى في انسجام تام بين الإيقاع الداخلي (الترابط الصوتي بين “استسقت/سحابها/تهمي/غزير”)، وبين الدلالة الوجدانية (البحث عن الارتواء الروحي).

لغة تهاني الصبيح مشغولة بدقة ووعي، فهي لا تترك المفردة عابرة، بل تنحتها كما ينحت الفنان الحجر ليصوغ منها لوحة متكاملة. تعتمد في بناء صورها على التشبيه والاستعارة والطباق والجناس، لكنها لا تقع في فخ الإفراط البلاغي الذي يثقل النص. جمالياتها تقوم على الاقتصاد اللغوي والصفاء التعبيري، حيث تحمل الكلمة أكثر من معنى وتفتح أفقًا للتأويل.

في قصيدتها «وتر» مثلًا، نرى الاقتصاد اللغوي في أبهى صوره:

وترٌ أنا فلتعزفي الوترا

ولتسكُني الإلهام لو حضرا

بيتان قصيران يختزلان هوية الشاعرة كاملة، ويجعلان من الكلمة مفتاحًا للدخول إلى عالمها الشعري.

كذلك نلمس في نصوصها قدرة على الجمع بين الإيقاع الداخلي والبعد الدلالي، بحيث لا يكون الوزن والقافية مجرد قوالب شكلية، بل وسيلة لإبراز المعنى وتعميقه. في «ذاكرة الطين» تقول:

وأنا التي استسقت وأنت سحابها

تهمي ودمعي في لقاكَ غزيرُ

هنا يتناغم الإيقاع مع الصورة، حيث يتدفق النص كالمطر، ليجعل القارئ يعيش تجربة الحنين والانهمار معًا.

أما في قصيدة «ريح يوسف»، فإن اللغة تنفتح على بعد رمزي عميق، حيث تتحول الريح إلى استعارة للحنين الكوني:

يا ريح يوسف من يجاري لهفتي

لو للحنين مسافةٌ ونطاقُ؟

هذا البيت يجمع بين البساطة التعبيرية والعمق الدلالي، ويكشف عن براعتها في صياغة نص يلامس الروح دون أن يفقد رشاقته الشعرية.

بلاغة تهاني الصبيح لا تقوم فقط على الصور الكبرى، بل أيضًا على التفاصيل الدقيقة. فهي قادرة على جعل مفردة مثل المطر أو الغربة أو الوتر مركزًا لبنية نص كامل، بحيث يتولد من الكلمة الواحدة شبكة من الصور والمعاني.

إن نصوصها تتسم بقدرة نادرة على الجمع بين البساطة والعمق، وبين السلاسة والدهشة. القارئ يدخل النص بسهولة، لكنه كلما أمعن فيه اكتشف طبقات جديدة من الدلالة. وهذا ما يجعل لغتها قادرة على أن تكون في آن واحد قريبة من القلب وملهمة للعقل.

بهذا الأسلوب، تتجلى بلاغتها في الجمع بين جمال الإيقاع وقوة المعنى، بين صفاء العبارة وعمق الرمز. وهي بذلك تؤكد أن الشعر ليس زخرفًا لغويًا، بل لغة أخرى للحياة، قادرة على إعادة تشكيل العالم بالكلمة

7. جدلية الذات والآخر

النصوص عند تهاني الصبيح تنطلق من الذات، لكنها لا تبقى حبيسة الأنا الفردية. فهي تبدأ من التجربة الشخصية لتتحول إلى تجربة إنسانية عامة، تجعل القارئ شريكًا في التلقي والتأمل. ذاتها ليست منغلقة، بل هي نافذة تنفتح على الآخر، تلتقط همومه وتشكلها في صور شعرية تجعل النص مرآة مشتركة بين الكاتب والقارئ.

الوطن حاضر في شعرها باعتباره مرآة للانتماء والذاكرة الجماعية، لكنه يظهر من خلال تجربة ذاتية صادقة. المرأة عندها ليست مجرد ذات أنثوية، بل رمز للحرية والصمود في وجه التقاليد والقيود. والإنسان، بكل تناقضاته وأحلامه وآلامه، حاضر باعتباره جوهر التجربة الشعرية. هذه العناصر تجعل من شعرها نصوصًا تعيش في الفضاء الجمعي دون أن تفقد جذورها الذاتية.

في ديوانها «وجه هاجر»، الذي أهدته إلى والدتها، يتجلى هذا البوح الوجداني الصادق، حيث يختلط الحنين بالفقد، والحب بالصبر، ليصبح النص مرثية للذات وللآخر في آن واحد. تقول:

الغربة هاجر تسكن المرايا

والماء زمزم يسيل من عيون الروح

هذا النص يجمع بين رمزية الأم هاجر كأيقونة للغربة، وحنين الابنة إلى والدتها، مما يفتح النص على فضاء وجداني متعدد الأبعاد.

كما نجد في قصيدتها “ذاكرة الطين” بعدًا وجدانيًا عميقًا يجعل من العلاقة العاطفية صورة كونية:

وأنا التي استسقت وأنت سحابها

تهمي ودمعي في لقاكَ غزيرُ

فالمرأة هنا ليست مجرد ذات محبة، بل روح عطشى تجد ارتواءها في الآخر، لتتحول العلاقة الإنسانية إلى استعارة عن الخصب والوجود.

وفي «وتر» يظهر هذا الحس الأنثوي حين تقدم نفسها بوصفها طاقة تنتظر التفعيل:

وترٌ أنا فلتعزفي الوترا

ولتسكُني الإلهام لو حضرا

هنا تنكشف الأنثى كصوت شعري يحمل إمكان الإبداع، لكنه لا يكتمل إلا بالتشارك مع الآخر، مما يجعل النص أكثر انفتاحًا على القارئ.

بهذا البوح الوجداني، لا تعزل تهاني الصبيح تجربتها الأنثوية في إطار ضيق، بل تجعل منها مرآة لرحلة إنسانية عامة. فهي تُصوِّر الحنين والأمومة والحب والاغتراب كطاقة شعرية شاملة، تجعل الأنثى رمزًا للحرية والصمود والخلود، وتؤكد أن الأنوثة في الشعر ليست مجرد حضور جسدي، بل بُعد روحي ووجودي.

هذا التوازن بين الذات والآخر يخلق نصوصًا متجذرة في التجربة الفردية لكنها مفتوحة على الهم الجمعي. القارئ يجد نفسه في صورها وانفعالاتها، ويرى همومه الخاصة منعكسة في كلماتها، فيتحقق الشعر عندها بوصفه نصًا للحوار والتلاقي، لا نصًا للانعزال والانكفاء. وهنا تكمن قوة شعرها: تحويل الأنا إلى فضاء نحن، والبوح الفردي إلى صدى جماعي.

الأنثى المبدعة: صورة المرأة في شعر تهاني الصبيح:

على متن غيمة تتهادى: تهاني الصبيح وأفق المرأة الأحسائية:

هذه القصيدة إحدى نصوص ديوانها الثالث – ما تنَّكر من عرش بلقيس- ألقتها الشاعرة بمناسبة يوم المرأة العالمي.

على متن غيمة تتهادى

غَنَّتْ لَهَا الْأَحْسَاءُ مِلْءَ ظِلَالِهَا

وَتَوَشَّحَتْ كُلُّ النَّخِيلِ بِشَالِهَا

فإذا مَشَتْ ، مَشَتْ المَحَابِرُ خَلْفَهَا

واسْتَنْطَقَ التَّارِيخُ خَطْوَ رِمَالِهَا

وَدَنَا لَهَا أُفْقٌ لِتَقْطِفَ نَجْمَةً

بَيْضَاءَ تَجْعَلُهَا عَلَى خَلْخَالِهَا

غَرَسَتْ جُذُورَ الْعِلْمِ بَيْنَ عُرُوقِهَا

فَنَمَتْ غُصُونٌ مِنْ نَدَى صَلْصَالِهَا

وَتَسَرْبَلَتْ بِالشَّمْسِ مِثْلَ عَبَاءَةٍ

جَاءَتْ تَجُرُّ النُّورَ مِنْ أَذْيَالِهَا

وَبَنَتْ بُيوتَ الْعَاكِفِينَ وَظَلَّلَتْ

حَقْلاً مِنَ التَّقْوَى بِغَيْمَةِ مَالِهَا

فَأَتَى الْحَصَادُ بَيَادِراً مِنْ حِكْمَةٍ

وَتَوَزَّعَ الْإِدْرَاكُ بَيْنَ سِلَالِهَا

وَهِيَ الَّتِي اعْتَصَمَتْ بِحَبْلِ اللَّهِ

مَا انْفَلَتَ الرَّجَاءُ مِن انْعِقَادِ حِبَالِهَا

وَهْيَ ابْنَةُ الْأَحْسَاءِ حِينَ تَصَاعَدَتْ

وَتَكَثَّفَتْ مَزْهُوَّةً بِجَمَالِهَا

وَهْيَ ابْنَةُ الْأُدَبَاءِ لَوْ ظَمِأَتْ

مَعَانِيهَا

سَتَنْهَلُ مِنْ مَعِينٍ خَيَالِهَا

فَتَأَمَّلُوهَا وَهْيَ تَعْبُرُ صَرْحَهَا

الْمُمْتَدِّ فَخْراً بِامْتِدَادِ فِعَالِهَا

وَتَأَمَّلُوهَا وَهْيَ تَرْكَبُ صَهْوَةَ

التَّمْكِين

تَفْتَرِشُ الفَضَا بِرِجَالِهَا

مَا خَانَهَا الْإِبْدَاعُ وَهُوَ قَرِينُهَا

مِنْ بَيْن جَنْبَيْهَا جَرَى ، وَخِلَالِهَا

مَا أَنْبَتَتْهَا الْأُمْنِيَاتُ وَإِنَّمَا

ثَبَتَ الْيَقِينُ عَلَى ذُرَى أَمَالِهَا

فَإِذَا تَوَافَدَتْ اللُّغَاتُ قَوَافِلاً

حَطَّتْ عَلَى فَمِهَا بُكَلِّ رِحَالَهَا

فَتَأَمَّلُوهَا وَهِيَ تَبْتَكِرُ الْحَضَارَةَ

وَالتَطَوَّرَ فِي خُطَى أَجْيَالِهَا

وتشَدُّهَا رُوحُ السَّمَاءِ فَمَا انْطَفَتْ

منْ قَوْسَتْهَا مِشْعَلاً كَهِلَالِهَا

أولًا: البنية الجمالية للقصيدة

قصيدة تهاني الصبيح تتحرك من صورة صغيرة بسيطة:

غيمة تتهادى في السماء، إلى فضاء ملحمي واسع يحتفي بالمرأة الأحسائية والمرأة عمومًا في يوم المرأة العالمي.

• الغيمة هنا رمز: فهي خفيفة ورقيقة، لكنها تحمل المطر والحياة، كما تحمل المرأة الرعاية والخصوبة والعطاء.

• كل بيت شعري يتفرع عن هذا المشهد الأول، ليبني سلسلة من الصور المتلاحقة: غيمة،  نخيل، محابر ،  رمال، صلصال، شمس، هلال.

وهذا التراكم الرمزي يجعل القارئ ينتقل من الطبيعة إلى الحضارة، ومن الأرض إلى السماء، كما تنتقل المرأة نفسها من دورها المحلي إلى دورها العالمي.

ثانيًا: حضور المكان (الأحساء)

الأحساء ليست مجرد خلفية جغرافية، بل تربة القصيدة:

• النخيل رمز الخصب والكرامة.

• الرمال رمز الامتداد والذاكرة العريقة.

• الصلصال يذكّرنا بخلق الإنسان، وبالارتباط الأول بين الأرض والوجود.

إذن، المرأة عند تهاني الصبيح ليست معزولة عن بيئتها، بل هي امتداد للأحساء نفسها: تتزيّن بالنخيل، وتخزن في عروقها ماء العيون، وتجعل من ترابها معراجًا إلى السماء.

ثالثًا: المرأة كحاضنة للعلم والحضارة

في قولها: “غَرَسَتْ جُذُورَ الْعِلْمِ بَيْنَ عُرُوقِهَا”، تظهر المرأة كأرض خصبة تغرس فيها بذور المعرفة.

• المحابر مشت خلفها: صورة بالغة القوة، فالمعرفة لم تعد مجرد أدوات جامدة، بل تحولت إلى تابع يسير خلف المرأة.

• الحصاد بيادر حكمة: وكأن ثمرة الزرع ليست قمحًا، بل حكمة. أي أن دور المرأة لا يقتصر على الأمومة البيولوجية، بل يشمل الأمومة الفكرية والثقافية.

رابعًا: المرأة والتمكين

تأتي الأبيات في مقطع ذروة: “فتأملوها وهي تركب صهوة التمكين”، وهذه استعارة فارسية الطابع (الصهوة والفروسية)، لكنها في القصيدة موجهة للمرأة.

• هنا نجد انقلابًا على الصورة النمطية؛ فالمرأة لا تُقاد بل تقود، لا تُمنح بل تُعطي.

• “تفتَرش الفضا برجالها” لا تُظهرها في صراع مع الرجل، بل شريكة له في امتداد الفضاء الحضاري.

•الإبداع قرينها، واليقين سندها، والأمل جناحها، فهي ذات مشروع ورسالة، وليست مجرد ظل.

خامسًا: البعد الروحي والكوني

• “اعتصمت بحبل الله” يربط المرأة بالقداسة.

• “وتشدها روح السماء فما انطفأت” يمنحها بعدًا نورانيًا، فهي متصلة بالسماء كالهلال، تجدد نوره كل شهر، رمزًا للديمومة والتجدد.

•بهذا، تتحول المرأة من كيان فردي إلى كيان كوني، يجمع بين الأرض (الأحساء) والسماء (الهلال).

سادسًا: التوظيف الرمزي

القصيدة مليئة بالرموز المركبة:

• الغيمة = العطاء والحماية.

• النخيل = الكرامة والجذور.

• المحابر = المعرفة والكتابة.

• الرمال = التاريخ الممتد.

• الخلخال = الزينة الأنثوية الممزوجة بالقداسة.

• الهلال = التجدد الروحي والنور الدائم.

بهذا تتشكل لوحة فسيفسائية تجعل المرأة نصًا جامعًا لكل رموز الوجود.

سابعًا: البعد الرسالي للقصيدة

النص ليس مجرد شعر للاحتفال بيوم المرأة العالمي، بل هو إعلان عن هوية المرأة السعودية/الأحسائية:

• هي ابنة الأدباء، أي أن جذورها ثقافية لا تُروى إلا بالمعاني.

• هي ابنة المكان، أي أن كيانها مشبع بالأرض والمجتمع.

• هي ابنة الحضارة، فهي من تصوغ المستقبل وتبتكر الحضارة.

الخلاصة النقدية

قصيدة تهاني الصبيح في يوم المرأة العالمي تُمثل:

• ملحمة أنثوية تربط بين الغيم والخلخال، بين الرمل والمحراب، بين النخلة والسماء.

• المرأة فيها ليست فردًا، بل أيقونة حضارية، تجمع بين العلم والإبداع، بين الروح والجسد، بين الأرض والسماء.

• النص مشبع بالرموز والخيال، مما يجعله أشبه ببيان شعري موجه إلى الأجيال، يؤكد أن المرأة ليست نصف المجتمع فحسب، بل هي المحرّك الأساسي لمسيرة التاريخ والحضارة.

تهاني الصبيح في مرآة رؤية عبدالله الشايب:

كتب المهندس عبدالله الشايب مقالة بعنوان “نضيد الطلع مع الشاعرة تهاني الصبيح”، وصف فيها شخصيتها بأنها بقدر أفق الشعر وسمفونية الحياة. اعتبرها شاعرة مرتبطة بمرجعية المكان “الأحساء”، مستحضرة الموروث ومتصاعدة نحو الجغرافيا الأوسع للوطن.

رأى أن شعرها العمودي ينبض برصانة البناء وطول النفس، وأن لغتها غنية بالتناص والاستعارة، وأنها تراجع مفرداتها بدقة لتلبي مقاصدها دون التباس. كما أشار إلى رثائها لوالدتها في “وجه هاجر” باعتباره ذروة وجدانية.

وأكد أن تهاني الصبيح أول سيدة منتخبة في مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي، وأنها مثال لتمكين المرأة في ظل رؤية المملكة 2030، وأن تجربتها تستحق دراسة نقدية معمقة.

تهاني الصبيح في قراءة حسين الجفال – حوار المجلة العربية:

” الشاعرة السعودية تهاني الصبيح لا تكتب من فرط هاجسها اللغوي ولكنها تحلم بذاتها البعيدة التى تراها بعدسة مكبرة فى عين القصيدة، كأنها قادمة من أرض الخرافات بملامح ملهمة، قصيدتها تتحرك بأبعاد شتى دون- صخب أو فوضى- رغم انهمامها بالسردية في الشعر إلا أن رمزيتها عالية لذلك تخطف الأضواء بإلقائها الواثق وتتداعى بشموخها الواثق وتصدح بأنوثتها المنسابة بوعي حاذق هنا حوارية وليس مجرد حوار في محاولة لسبر أغوارها شاعرة أولاً ومثقفة وعرّابة ومتأمّلة أيضًا.”

الخاتمة :

إن تجربة تهاني الصبيح ليست مجرد مسيرة شعرية، بل هي شهادة على قدرة المرأة السعودية على كسر القيود وصناعة حضور بارز في المشهد الثقافي. من الأحساء إلى باريس، ومن سوق عكاظ إلى الشارقة، رفعت راية الشعر النسائي عالياً، وأثبتت أن الكلمة الحرة قادرة على تجاوز الحدود وصنع الأثر.

هي صوت يجمع بين الأدب والتعليم، وبين الموروث والحداثة، وبين التجربة الشخصية والرسالة الوطنية. قصائدها ليست مجرد نصوص للقراءة، بل هي شهادات وجودية عن الحرية والحب والانتماء.

تبقى الشاعرة تهاني الصبيح علامة فارقة في المشهد الأدبي السعودي، بما حملته من روح الإصرار والتجديد. هي ابنة الأحساء التي حولت القيود إلى أجنحة، وجعلت من الكلمة نافذة نحو الحرية والجمال. حضورها في المحافل العربية والدولية رسّخ صورة المرأة السعودية المبدعة الواثقة، وجعل من قصائدها ذاكرة جماعية ووجداناً ممتداً.

إنها صوت يجمع بين أصالة التراث ورؤى الحداثة، وبين الحنين واليقين، وبين الذات والوطن. ومع استعدادها لإصدار ديوانها الثالث، تبدو رحلتها الإبداعية في تصاعد مستمر، تحمل معها وعدًا لجيل جديد من الشاعرات بأن الحرية والإبداع ممكنان مهما اشتد الحصار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى