أقلام

بين المدير والفسحة، وقطعة تمثيل

عماد آل عبيدان

تمهيد

هذه المقالة كتبتُها ونشرتُها في فيسبوك وتويتر بتاريخ 30/04/2025، وقت كان أستاذي ومدير مدرستي بالقديح الثانوية (أبو فراس: الدكتور عبدالله بن حسن آل عبدالمحسن) منوّمًا بالمستشفى.

وها أنا أعيد نشرها اليوم في ذكرى رحيله بأواخر سبتمبر 2025، بعد أن غيّب الموت وجهًا أحببناه جميعًا، لأضيف إليها ما يليق بذكراه، وما يخلّد أثره في النفوس.

التربية قلوب تُفتح وتغذّي لا أوراق تُوقّع. والطالب لا يتهيأ بالحصص وحدها، وإنما تربيه الفُسَح وتشكله المواقف الصغيرة التي لا تُسطَّر في دفاتر الحصص، بقدر ما تُعاش واقعًا وتُمارَس حياةً.

في مدارس كثيرة يُعامَل الطالب كما لو كان ملفًا تأديبيًا يمشي على قدمين، وتتحول الصفوف أحيانًا إلى معسكرات لتدريب الجباه على الانحناء، بدلًا من تدريب الأرواح على التحليق. وفي وسط هذا المشهد، يلمع نجم رجل اسمه *أبو فراس*، مديرٌ لا يهاب منه الطلاب، يحبونه، لأنه لم يكن كمدير فقط، كونهم وجدوه مؤسسة تربوية تسير على قدمي إنسان.

وقد عبّر المسرحي عباس الحايك عن ذلك بأجمل شهادة فقال:

“وأنا أتحدث في البودكاست عن مسرح الطفل، تذكرت الكاتب المسرحي الدكتور عبد الله آل عبد المحسن، والذي عُدّ رائدًا من رواد مسرح الطفل في الخليج، والذي عرفته أول مرة حين كان مدير مدرستي الثانوية، ولم أتصور أن يكون صديقًا وزميلًا في الكتابة. كان له أثر حقيقي عليّ في المرحلة الثانوية، كما كان له أثر على كل الطلاب، حيث لم تكن شخصيته توحي بصرامة مدير مدرسة،بل كان صديق كل الطلاب يشاركهم حتى وجبات الفسحة.”

تأملوا هذه العبارة: “ يشاركهم حتى وجبات الفسحة!”

أية تربية هذه التي تمتد يد المدير فيها لا للعقوبة،وإنما لعلبة عصير؟ وأي دفء هذا الذي يُبدّد الفاصل بين المكتب والطالب، ويجعل من «الفسحة» درسًا أكثر صدقًا من بعض الحصص؟

إن التربية مسؤولية مشتركة، ينهض بها ثلاثي متكامل: المدرسة والمعلم والمدير. والمدير، في صورته المثلى، ليس إداريًا فحسب، كونه شريك وجداني في صناعة الإنسان. ومن هنا، لم يكن غريبًا أن يتحول أبو فراس إلى كاتب مسرحي للأطفال، وأن يحوّل معه جمود الإدارة إلى دفء في الخيال، والسبورة إلى خشبة مسرح، والبسملة إلى افتتاح عرض إنساني ضاحك مبكٍ في آنٍ.

وهنا سؤال يستحق التوقف:

هل يمكن أن نربي الطفل من خلال المسرح؟

نعم، إذا كان المخرج في يومٍ من الأيام مدير مدرسة اسمه أبو فراس.

لقد اقترب من مشاغبة الطلاب ليلاقي وجعهم ويسألهم: “إلى أين تريد أن تصل؟” لا ليصطادها عليهم. وحين نمرض نحن من ضغوط الحياة، يكفي أن نستعيد صورته لنفهم أن التربية نَفَس يهب الحياة وليست نصوصًا جامدة.

الأثر يُقاس بعدد القلوب التي انفتحت بكلمة حانية سكنت الأرواح، لا بعدد الأنظمة واللوائح. وهذا هو المقياس الذي يجعل ذكراه خالدة.

ملحق الوفاء بعد الرحيل

رحل أبو فراس، رائد مسرح الطفل وأستاذ التربية الجميلة. نم قرير العين، فقد علّمت جيلًا بأكمله، وأدخلت دفء الإنسانية إلى صفوفٍ باردة. كتبت عنه جهات الإخبارية وصحيفة صُبرة وغيرهما، مؤكدين أنه جمع بين الإدارة والأدب والمسرح، وأنه جعل من المدرسة فضاءً للطفولة، لا جدرانًا مغلقة.

هذا الأسلوب منهج راسخ يظل علامة مضيئة في مسيرة التربية، قبل أن يُدرَج في خانة الطرافة العابرة. وما أحوجنا اليوم إلى مدراء يشبهونه: يوزّعون حبًا في الفُسح، ويكتبون مسرحًا للأطفال، ويثبتون أن التعليم إذا خلا من الروح فقد قيمته.

ختام

أكتب الآن، وأستعيد مقالي القديم الذي كتبته يوم كان مريضًا، لأضعه اليوم بجوار مقالي الجديد بعد أن غاب عن الحياة. الأول شهادة طالب في مديره، والثاني عهد كاتب تجاه أستاذه.

سلام على أبي فراس… ما بقي في المدارس طلاب يضحكون، ومعلمون يحنون، ومدير يعرف أن «الفسحة» درس لا يقل شأنًا عن الرياضيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى