
السيد فاضل آل درويش
تكامل القدرة التفكيرية والرؤية الشاملة عند النظر للأمور والعلاقات لا تأتي دفعة واحدة بل يلعب العامل الزمني دورًا محوريًا في تساميها وتعاليها إلى الدرجات العليا، ولذا فإن التقدّم في العمر مؤشر مهم في النضج الفكري والقدرة على التعاطي مع الصعوبات والأزمات بقدر كبير من تحمّل المسؤولية واتخاذ القرارات المناسبة، ولكن هذه القناعة بتكامل العقول وتأثير تقادم الأيام لا يتأتّى مع كل الناس، بل نجد من تتوقف ساعة عمره الفكري دون تقدّم مع ما يملكه من رصيد كبير بعدد السنوات التي عاشها، وذلك أن التجارب الذاتية التي عاشها وعايشها لم يستخلص منها الدروس والعبر، وكل ذلك الكم من أوجه التقصير والقدر الكبير من الأخطاء لم يغيّر مجرى حياته والتوقف عن مسلسل الخسارة، حيث أن الشعور بالألم والإحساس بالخذلان أمام الصدمات وصفعات الزمن إذا لم يتحوّل إلى درس وتجربة تنير دربه في الحياة مستقبلًا فلن تتكامل قدراته الفكرية.
النضج الفكري والعاطفي والاجتماعي يؤثر فيه عدة عوامل، وأهمها: الاستفادة من التجارب والمواقف واستخلاص الدروس منها؛ ليتكوّن مخزون الخبرات كطير اكتسى بدنه بالريش واستطاع الطيران والتحليق في فضاء ميادين الحياة وبناء العلاقات الوازنة، حيث أن الإنسان الغَرّ في بداية شبابه قد يتخذ القرارات المتهوّرة والعاطفية المتسرعة والخضوع لعامل الانفعال الشديد بما ينعكس على طريقة تفكيره واتخاذ القرارات والمواقف، ولكن مع التقدم في العمر والتعرض لتجارب مريرة يصبح أكثر اتزانًا وقدرة على اتخاذ قرارات عقلائية وأكثر حكمة، وهذا الاتجاه ليس بصحيح في كل حالاته بل هو رهين بالتفاعل الإيجابي مع التجارب والاستنارة بدروسها في المواقف القادمة، بما ينعكس على وعيه وإدراكه للأمور والتعامل معها بتأنّ وحكمة والبحث عن الاتجاهات المحتملة لأي مشكلة، وبما يساعده على فهم ذاته ومعرفة نقاط القوة والضعف عنده، ويتبلور عنده عامل قوة مهم وهو القدرة على التكيّف مع الآلام المزمنة والصعوبات المتتالية دون تأفّف أو تشاؤم.
النضج في شخصية الإنسان تلعب التجارب الذاتية دورا في بلورته، حيث أنها تمثل فرصة للتعلم والمواجهة الذكية مع الظروف الصعبة ومعالجة الأخطاء بعيدًا عن الانفعال، وهي محطات ضرورية للوعي والتطور والوعي بالذات والانطلاق في ميدان العمل المثابر.
وعلى مستوى النضج الاجتماعي وإقامة العلاقات وصولًا إلى حالة الانسجام والتوافق والتقارب في وجهات النظر، لا شك أن الفرد يمر بمحطات الخيبة والألم من بعض الأشخاص، ومؤشر نضجه الاجتماعي هو تجاوزه لتلك التجارب المؤلمة وتحويلها إلى درس، فيعمل على إعادة تقييم علاقاته وتصحيح مسيرته الاجتماعية ويدفعه إلى الانفصال عن التوقعات المثالية والانتقال إلى رؤية أكثر واقعية للحياة، فالإنسان لا يُولد مُكتملا بل عليه أن يصنع ذاته من خلال الأزمات ومحطات الاختبار، فالألم ليس مجرد معاناة بل مادة خام لصياغة الذات، والنضج الفكري هو نتاج الاشتباك و المواجهة مع هذا الألم، فيُنظر إلى الألم كفرصة لإعادة تشكيل معنى الحياة لا كحالة سلبية يجب التخلص منها.