
عماد آل عبيدان
بين الرداء الأبيض والقصيدة، يقف رجل يوازن بين نبض قلب طفل على سرير العناية، وبين نبض حرف يكتب به صلاةً سرية في ليل القديح. هناك، في بلدة القديح العريقة بمحافظة القطيف، وُلد عام ١٣٩٠هـ الدكتور عبدالله بن علي بن عبدالله العبيدان، فشبَّ بين أزقتها محبًا للعلم، متوهجًا بروح العطاء، ومنها انطلق إلى مسيرة امتزجت فيها العزيمة بالعلم والإنسانية. على مقاعد القديح الثانوية تفتحت مداركه الأولى وبدأت ملامح الجدّ تتضح، فكان يخطّ طريقًا مبكرًا للجدّ والاجتهاد وشغف العلم والمعرفة والإبداع، لينطلق بعدها إلى جامعة الملك فيصل بالدمام (جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل حاليًا) متسلحًا بالشغف؛ ليتخرج منها طبيبًا عامًا، فحصل عام ١٤١٧هـ على بكالوريوس الطب العام، واضعًا في قلبه وعدًا بأن يكون الطب خدمةً لا وظيفة، ورسالةً لا مهنة. لم يكتفِ بالشهادة الأولى، إذ طرق أبواب التميز في برامج الزمالة، وواصل مسيرته حتى حاز عدة زمالات متقدمة جعلته من الأسماء البارزة في تخصص طب الأطفال والعناية المركزة، مؤكدًا أن السعي للعلم لا يتوقف عند حد، وأن خدمة الإنسان تبدأ من عمق المعرفة.
لم يتوقف عند البكالوريوس، إذ طرق أبواب التميز في برامج الزمالة. التحق ببرنامج زمالة طب الأطفال في المستشفى العسكري بالرياض (١٤١٧–١٤٢٣هـ)، وحصل خلال تلك الرحلة على أربع زمالات تُعادل الدكتوراه: الأردنية عام ١٤٢٢هـ، السعودية عام ١٤٢٤هـ، البريطانية في العام نفسه، والعربية عام ١٤٢٥هـ. ثم مضى إلى محطة تخصص أدق، فحاز من مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض شهادة التخصص الدقيق في العناية المركزة للأطفال بعد عامين من التدريب المكثّف (٢٠٠٧–٢٠٠٨م). كان بذلك أول متخصص في هذا المجال على مستوى القطيف، وخامس طبيب على مستوى المنطقة الشرقية والأحساء، فاتحًا الطريق لجيل جديد من التخصصات الحيوية.
في مسيرته العملية، بدأ بالمستشفى العسكري بالرياض طبيبًا مقيمًا ثم أخصائيًا حتى عام ١٤٢٣هـ، ثم إلى وزارة الصحة بمستشفى صفوى العام، ومنها إلى مستشفى القطيف المركزي. لم يلبث طويلًا حتى حملته طموحاته إلى مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام استشاريًا مشاركًا، حيث ابتُعث داخليًا للتخصص الدقيق، قبل أن يعود ليستقر في مستشفى القطيف المركزي منذ عام ١٤٣٠هـ، رئيسًا لوحدة العناية المركزة للأطفال، ثم رئيسًا للقسم ثماني سنوات حتى بداية عام ١٤٣٩هـ. هناك عرفه المجتمع طبيبًا لا يتوانى عن الإجابة على نداء في منتصف الليل، ولا يتأخر عن مريض يطرق بابه، حتى صار بيته كما قلبه مفتوحًا للجميع.
ولأنه لا يكتفي بإنقاذ الأجساد، حمل قلمه شاعرًا وكاتبًا، عاشقًا للكتب والمعرفة، يكتب كما لو كان يعالج الروح من عللها. له مخطوطات شعرية مثل رسائل السماء، ومناجاة في محضر الرب، وقصائد من عالم النور، فضلاً عن مقالات وكتب فكرية مخطوطة. في أبياته ينساب وجدانه صادقًا، يقول:
“وحلقت بالروح صوب السماء / وجئت لربي على موعدِ
إليه أسير وروحي تنير / ومنه رواء فؤادي الصدي”
هنا يبدو الشاعر وجهًا آخر للطبيب؛ فهو الذي عاش بين تأوهات الأطفال في العناية المركزة، وبين مناجاة الروح في ساعات الصفاء، فخرجت قصائده مشبعة بألم التجربة وضياء الرجاء.
ولأن العالم يحتاج اليوم إلى أصوات تجمع بين العلم والروح، أنشأ قنواته ومنصاته مثل قناة العلم والروح ومشروعك للارتقاء الروحي على التليجرام، ونجاة إنسان على اليوتيوب، حيث يقدّم محاضرات وخواطر تربوية، إلى جانب محاضراته الطبية في مؤتمرات ومناسبات مختلفة. ولم يكتفِ بذلك، بل لبّى نداء المسؤولية الدينية والاجتماعية، فشارك لعشر سنوات متتالية طبيبًا في حملات الحج، يعالج المرضى ويقدّم التوعية للحجاج في مكة والمشاعر.
هو طبيب لا يختزل في لقب استشاري، وشاعر لا يُحصر في ديوان، وإنسان لا يُقاس بعطاء واحد. نصف حياته للناس طبًا وعطاءً، ونصفها الآخر للروح شعرًا وتزكيةً وارتقاءً. وفي وطن يزهو برجالاته المخلصين، يظل الدكتور عبدالله العبيدان مصدر فخر وعزّة، ابن القطيف الذي حمل همومها في قلبه، وابن القديح الذي بقي وفيًا لأرضها وأهلها، والإنسان الذي جسّد أن القيمة الحقيقية تكمن في أن تعطي أكثر مما تأخذ، وأن تترك في القلوب بصمة لا تزول، وأثرًا يبقى ما بقيت الحياة.