
د. حجي الزويد
المقدمة : اليوم العالمي للقهوة: رحلة التاريخ والثقافة والاقتصاد
في الأول من أكتوبر من كل عام، يحتفل العالم بـ اليوم العالمي للقهوة، المشروب الذي تجاوز حدود المطبخ ليصبح ظاهرة ثقافية واقتصادية عالمية. يحتفي الملايين بفنجان القهوة صباحًا، ولكن خلف هذه العادة اليومية حكاية ممتدة عبر أكثر من ألف عام، تنطوي على أساطير، وحروب تجارية، ومحاولات حظر سياسي، وتفاعلات ثقافية جعلت القهوة جزءًا من هوية الشعوب.
أولًا: فنجان القهوة: من أسطورة الماعز الراقصة إلى ثقافة عالمية
تعود القصة إلى القرن التاسع الميلادي، حيث لاحظ رعاة الماعز في مرتفعات إثيوبيا أن مواشيهم تصبح أكثر نشاطًا بعد تناولها ثمارًا حمراء من شجيرات البن. هذه الملاحظة البسيطة تحوّلت إلى أسطورة عن “الماعز الراقصة”، ثم إلى عادة إنسانية، حيث جُرّبت الثمار على البشر، لتُكتشف الطاقة المنبهة الكامنة في الكافيين .
هذه البداية الشعبية تلخص جوهر القهوة: مشروب يولد من فضول الإنسان ورغبته في اليقظة.
من الفاكهة إلى الحبوب:
رغم شيوع اسم “حبوب القهوة”، إلا أن القهوة في أصلها فاكهة؛ إذ تنمو على شجيرات، وتُستخرج الحبوب من قلب الثمرة المعروفة باسم “حبة البن”.
ثانيًا: من إثيوبيا إلى العالم الإسلامي:
القهوة في المجال العربي والإسلامي: من اليمن إلى المجالس
انتقلت القهوة من إثيوبيا إلى اليمن في القرن الخامس عشر، وهناك اكتسبت طابعًا روحيًا وصوفيًا. فقد استخدمها المتصوفة في حلقات الذكر لإطالة السهر وتنشيط العبادة. ومع توسع تجارتها عبر ميناء المخا، أصبحت القهوة سلعة إستراتيجية عابرة للقارات.
• في مكة والمدينة، ارتبطت القهوة بالضيافة وحلقات الدرس في الحرم.
• في القاهرة ودمشق، ظهرت المقاهي كمراكز لتجمع الأدباء والشعراء والتجار، حيث صارت القهوة لغة مشتركة تجمع الناس حول طاولة واحدة.
المقاهي الأولى: فضاءات للنقاش والجدل:
بحلول القرن السادس عشر، انتشرت المقاهي في إسطنبول والقاهرة ودمشق، وأصبحت تُعرف بـ “مدارس الشعب”.
•في إسطنبول، وُصفت المقاهي بأنها “برلمانات صغيرة”، حيث يتبادل الناس النقاش في السياسة والأدب والدين.
• في القاهرة، كانت مقاهي مثل “الفشّار” و”الزهاوي” ملتقى المثقفين.
• في دمشق، ارتبطت المقاهي بسماع الحكواتي، حيث تجتمع الجماهير حول القصص والسير الشعبية.
هذه المقاهي مثّلت أول فضاءات عامة خارج المسجد والسوق، مما منحها دورًا في تشكيل الوعي الجمعي، وجعلها مصدر قلق للسلطات التي حاولت مرارًا حظرها.
محاولات الحظر في العالم الإسلامي:
تمامًا كما حدث في أوروبا، حاول بعض الحكام المسلمين حظر القهوة:
• في مكة، أصدر بعض الفقهاء فتاوى بتحريمها لاعتقادهم أنها “تسكر” أو تثير الفوضى في المجالس.
• في إسطنبول، أمر السلطان مراد الرابع بإغلاق المقاهي ومعاقبة شاربي القهوة، لأنها كانت تؤوي المعارضين السياسيين.
ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل؛ إذ سرعان ما تحولت القهوة إلى جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية والثقافة الشعبية.
القهوة والكرم العربي: القهوة… ذاكرة الشعوب ورمز الضيافة والكرم
في الجزيرة العربية، ارتبطت القهوة بالكرم، حتى أصبحت رمز الضيافة الأصيل. لا يُقدَّم الطعام إلا بعد القهوة، ولا يُستقبل الضيف إلا بفنجانها الأول.
•في البادية، ارتبطت طقوس القهوة بالقصيد والشعر، حيث يسبق تقديمها أبيات ترحيب.
• في الخليج، أصبحت دلة القهوة رمزًا بصريًا يُستخدم في الشعارات والاحتفالات الوطنية، تأكيدًا على أنها ليست مجرد مشروب، بل هوية.
القهوة والسياسة العربية الحديثة:
مع دخول القرن العشرين، ظلّت المقاهي في القاهرة وبيروت وبغداد مراكز للتجمع السياسي والفكري.
• في مصر، لعبت مقاهي مثل “ريش” و”زهرة البستان” أدوارًا مهمة في استقبال المثقفين والكتّاب والصحافيين.
• في بيروت، ارتبطت المقاهي بظهور الصحافة والحركات القومية.
• في بغداد، كانت المقاهي ملتقى الشعراء وموطنًا للحركات الأدبية.
هكذا أصبحت القهوة جزءًا من الحراك الثقافي والسياسي العربي، حيث وُلدت من فنجانها نقاشات غيّرت مسار التاريخ.
القهوة اليوم: بين التراث والعولمة: حين يصبح الفنجان جسرًا بين الشرق والغرب
اليوم، تعيش القهوة في العالم العربي ازدواجية لافتة:
• من جهة، تستمر القهوة العربية بطقوسها التقليدية ودلالها ونقوش فناجينها كرمز للهوية.
• ومن جهة أخرى، تنتشر المقاهي العصرية (ستاربكس وكوستا وسلاسل عالمية أخرى) كرمز للعولمة.
ولكن المدهش أن الاثنين يتعايشان: ففنجان القهوة العربية في المجالس يوازي فنجان الإسبريسو في المقاهي الحديثة، ليعبّرا معًا عن ثقافة واحدة تتجدد
ثالثًا: القهوة في أوروبا: من “النبيذ العربي” إلى مشروب الفلاسفة:
• دخلت القهوة أوروبا في القرن السابع عشر، عبر التجارة مع الشرق العثماني.
• عُرفت في البداية باسم “النبيذ العربي”، وأثارت جدلًا دينيًا، حتى أن بعض رجال الكنيسة اعتبروها “مشروب الشيطان”. ولكن البابا كليمنت الثامن، بعد أن تذوقها، قال: “هذا المشروب لذيذ جدًا، سيكون خطيئة أن نتركه للوثنيين وحدهم.”
• منذ ذلك الحين، انتشرت المقاهي في فيينا ولندن وباريس، لتصبح مراكز للنقاشات السياسية والفكرية، حتى لُقبت بـ مدارس الفلاسفة.
رابعًا: الذهب الأسود الثاني: القهوة والاقتصاد العالمي
•البرازيل: تتصدر الإنتاج العالمي للقهوة منذ القرن التاسع عشر، وتوفر اليوم نحو ثلث الإنتاج.
• فيتنام: ثاني أكبر منتج، خاصة لحبوب روبوستا.
• كولومبيا: ارتبط اسمها بالقهوة الفاخرة.
• عام 1932، موّلت البرازيل مشاركتها في الألعاب الأولمبية من خلال بيع شحنات قهوة .
• اليوم تُعد القهوة ثاني أكثر سلعة متداولة في العالم بعد النفط، ويعمل ملايين البشر في زراعتها وتجارتها وصناعتها.
خامسًا: القهوة كسلعة ثقافية وهوية يومية:
• في الدول الإسكندنافية، مثل فنلندا، يبلغ متوسط استهلاك الفرد أكثر من 12 كجم سنويًا.
• في بريطانيا، رغم شهرتها بالشاي، يستهلك الناس نحو 95 مليون كوب قهوة يوميًا.
• في المجتمعات العربية، ارتبطت القهوة بالكرم والمجالس والتقاليد الاجتماعية، حتى أصبحت رمزًا للضيافة.
سادسًا: الطرائف والغرائب:
• في القرن الثامن عشر، حاولت حكومات أوروبية عدة حظر القهوة خوفًا من كونها “محرضة على النقاش الحر”، كما في السويد عام 1746 حيث مُنع شربها بل وصُودرت الأكواب والأدوات المرتبطة بها.
• قهوة كوبي لواك في إندونيسيا تُعد الأغلى عالميًا (600 دولار للرطل)، إذ تمر بعملية “تخمير طبيعية” بعد أن يأكلها حيوان الزباد ويمررها عبر جهازه الهضمي.
• المكسيك دخلت موسوعة جينيس في 2022 بأكبر كوب قهوة في العالم حجمه 26,939 لترًا.
سابعًا: أثر القهوة في الإبداع والفكر:
ارتبطت القهوة بالإبداع الأدبي والفني. من أبرز عشاقها لودفيغ فان بيتهوفن، الذي كان يعدّ 60 حبة قهوة بدقة لكل فنجان، دلالة على شغفه الكبير.
واليوم، ما تزال المقاهي فضاءات للتفكير والإبداع، ومراكز لتبادل الأفكار كما كانت في عصر التنوير الأوروبي.
الخاتمة: في اليوم العالمي للقهوة: كيف أصبح الفنجان رمزًا إنسانيًا
القهوة أكثر من مجرد مشروب؛ إنها ذاكرة إنسانية وظاهرة اقتصادية وهوية ثقافية. منذ اكتشافها على سفوح إثيوبيا وحتى وصولها إلى طاولات ملايين البشر يوميًا، ظلت القهوة رمزًا للقاء والتفكير واليقظة. في اليوم العالمي للقهوة، يمكن القول إن فنجان القهوة هو جسر خفي يربط الماضي بالحاضر، ويجمع بين البشر حول طقس واحد رغم اختلاف ثقافاتهم.
المراجع
1. National Coffee Association. History of Coffee. aboutcoffee.org.
2. Encyclopaedia Britannica. Coffee. britannica.com.
3. USDA. Coffee: World Markets and Trade. apps.fas.usda.gov.
4. International Coffee Organization (ICO). World Coffee Statistics Database. ico.org.
5. Investopedia. The 5 Countries That Produce the Most Coffee. investopedia.com.
6. PBS. The Caffeinated History of Coffee. pbs.org.
7. Melitta. History of Coffee. melitta.com.
8. Reuters. Genome study reveals prehistoric Ethiopian origins of coffee. reuters.com.