
أحمد الطويل
الإسلام والمشروعية بعد التعددية الدينية
تنويه: هذه هي المقالة الثالثة من سلسلتنا الفكرية الأسبوعية، مستوحاة من الفصول السادس والسابع من كتاب مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية للأستاذ محمد حسين زاده (ترجمة سيد حيدر الحسيني). بعد استكشاف متاهة القراءات المتعددة في المقالة الأولى، ومواجهة التعددية الدينية في المقالة الثانية، ننتقل اليوم إلى المشروعية في الإسلام، حيث سنكشف الطريق الحق بعد الفوضى الفكرية، ونهيئ القارئ للمقالة الرابعة حول النجاة.
مقدمة:
تخيّل نفسك في صحراء مترامية الأطراف، والضباب يلف الأفق. كل قافلة تمر بك تعدك بالواحة، وكل قائد يقسم أن طريقه هو الصحيح. تشعر بالحيرة، تبحث عن العلامات التي تدلك على الطريق الآمن، وتشعر أن الحقيقة لا يمكن أن تكون متفرقة.
هذا بالضبط ما تفعله التعددية الدينية: تعدّك بأن كل الطرق صحيحة للوصول إلى الحق، وأن كل دين يحمل جزءًا من الحقيقة. ولكن القرآن الكريم يقطع الشك باليقين: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]
الواحة واحدة، والطريق إلى الحق واضح، والمشروعية ليست أمرًا نسبيًا، بل هي حكم إلهي مرتبط بالوحي الكامل.
الفيل في الغرفة المظلمة: خرافة التعددية
أنصار التعددية يستخدمون مثال الفيل في الغرفة المظلمة: كل شخص يلمس جزءًا ويظنه الحقيقة الكاملة، بينما الحقيقة الكاملة لا يراها إلا من يعرف الصورة بأكملها. جون هيك استعار هذا المثال وارتبط بفكر كانط، مدعيًا أن كل دين يقدم صورة جزئية عن الحقيقة المطلقة.
لكن هذا الادعاء يساوي بين الحق والباطل، بين التوحيد والشرك، ويغفل الفرق بين الهداية والضلال. الإسلام يرفض هذا التسويف ويؤكد أن الطريق الحق واضح ومحدّد، وأن المشروعية اليوم محصورة بالإسلام بعد بعثة النبي محمد ﷺ.
القرآن والحكم الإلهي: مشروعية الإسلام
القرآن يوضح بجلاء أن مجرد الانتساب لدين سابق لا يكفي للنجاة، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْنَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]
كما أكد على مشروعية الإسلام وحده بعد الرسالة الخاتمة: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:85]
هاتان الآيتان تثبتان أن الطريق الحق اليوم واحد، وأن المشروعية ليست مسألة نسبية، بل حكم إلهي واضح.
المسيحية والتعددية: التاريخ يكشف الحقيقة
التاريخ يوضح أن المسيحية التقليدية لم تتبنَ المساواة بين الأديان. الكاثوليكية قالت: “خارج الكنيسة لا خلاص”، بينما البروتستانتية قلّلت من هذا الانغلاق جزئيًا، لكنها بقيت تؤكد ضرورة الإيمان بالمسيح. ومع ظهور تيارات الفكر الليبرالي الحديث، حاول البعض تعميم التعددية على جميع الأديان، مثل جون هيك، الذي اعتبر كل دين انعكاسًا للحقيقة المطلقة من زاوية مختلفة.
لكن الواقع والتاريخ يثبتان أن الأديان تختلف في جوهرها، وأن هذه الفلسفة الحديثة، رغم جاذبيتها، لا يمكنها أن تنسجم مع نصوص الوحي الصريحة. الإسلام يؤكد أن الحقائق الجوهرية ليست نسبية، وأن الطريق الصحيح للنجاة واحد وواضح.
الإسلام والمشروعية: الطريق المؤكد
الإسلام لم ينكر مشروعية الشرائع السابقة، فقد بعث الله رسلاً وأنزل شرائع لكل أمة في وقتها. لكن هذه الشرائع كانت مرحلية، ومع بعثة النبي ﷺ صار الإسلام الدين المشروع الكامل والمهيمن، كما تقول الآية: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]
الهداية اليوم ليست مجرد شعارات أو انتماءات تاريخية، بل الالتزام بما أمر الله ورسوله، بالإيمان والعمل الصالح. المشروعية بعد الإسلام واضحة: الإسلام هو الطريق الحق، والآخرون أخذوا أجرهم قبل البعثة، لكن اليوم الطريق واحد لمن أراد النجاة.
الخلاصة:
في هذه المقالة، كشفنا كيف أن التعددية الدينية، رغم بريقها الفلسفي وجاذبيتها الفكرية، تقع في فخ التضليل والنسبيّة. كل الأديان السابقة كانت مشروعة في وقتها، لكن مع بعثة النبي محمد ﷺ، صار الإسلام الدين المشروع الوحيد والمهيمن على الأرض. الطريق إلى الحق لم يعد متعددًا، والمشروعية اليوم محددة بوضوح، كما نص القرآن ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]
﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
أيها القارئ، لا تظن أن الطريق مفتوح لكل مسار أو أن الحق نسبي. الطريق الحق واحد، والحق محفوظ من التحريف، والنجاة لا تتحقق إلا بالاتباع الواعي للوحي والعمل الصالح. الإسلام لا يفرض نفسه بالقوة، لكنه يرسم خريطة واضحة للهداية، يوجه بها الباحث عن الحق، ويضيء له المسار وسط ضباب الحياة وأوهام البشر.
تخيّل نفسك بعد رحلتك الطويلة في الصحراء، وقد ظهر أمامك الطريق الصحيح، واضحًا، محددًا، مضاءً بنور الوحي. تشعر باليقين يغمر قلبك، وتدرك أن الله فتح لك باب الهداية. لكن هل يكفي أن ترى الطريق؟ أم أن النجاة الحقيقية تحتاج أن تخطو فيه بثبات، وتواصل المسير حتى تصل إلى الواحة؟
هذا هو السؤال الكبير الذي سيواجهنا في المقالة الرابعة: من ينجو ومن يهلك؟ وكيف يربط الله بين المشروعية والعمل والخلاص الأبدي؟ استعد للغوص في أعماق المعرفة، فالرحلة لم تنتهِ بعد، والنور يزداد وضوحًا مع كل خطوة في طريق الحق.
اللهم أرنا الحق حقًا فنتبعه، وأرنا الباطل باطلًا فنجتنبه، وثبتنا على صراطك المستقيم، واحشرنا مع محمد وآل محمد الطاهرين.
المصادر والهوامش
1. القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 19.
2. القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 85.
3. القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 111.
4. محمد حسين زاده، مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية، ج2، ترجمة سيد حيدر الحسيني، دار الهدى.
5. John Hick, An Interpretation of Religion.
6. Immanuel Kant, Critique of Pure Reason.