
طالب البقشي
يشكل علم النسب الجيني أحد العلوم الحديثة والجديدة على المجتمع الإنساني بصفة عامة، وعلى المجتمع الإسلامي ومنظوماته التشريعبة والفقهيه والقانونية بصفة خاصة.
وفحوصات النسب الجيني لها أستخدامات متعددة، منها إثبات النسب بالحمض النووي الجسمي Autosomal DNA التي تستكشف سلالة الأجداد، واختبارات كروموسوم Y (Y-DNA) للبحث في سلالة الأب، واختبارات الحمض النووي للميتوكوندريا mtDNA لتتبع سلالة الأم، وتستخدم هذه الاختبارات عينات الدم أو اللعاب لتحديد أنماط الهجرة التاريخية، والكشف عن الأقارب، وبناء مشجرات العوائل.
وانتشرت حديثًا شركات تجارية تقدم فحوصات الأنساب مثل AncestryDNA، وMyHeritage، و23andMe، وFamily Tree DNA، حيث توفر هذه الشركات خدمات تحليل الحمض النووي لفهم الأصول العرقية وتحديد الأقارب المحتملين. إضافة إلى ذلك توجد مختبرات محلية مثل مختبر جينات الحياة وAlphaBiolabs في السعودية، التي تقدم فحوصات لإثبات النسب والعلاقات الأسرية لأغراض قانونية وشخصية. ولا تعتمد هذه الشركات على قاعدة بيانات واحدة عالمية موحدة، بل تبني نتائجها على قواعد بياناتها الخاصة التي تتشكل من قاعدة بياناتها المرجعية وتتكون من عينات جينية مأخوذة من مجموعات بشرية معروفة الأصل. وكل شركة تختار مجموعات مرجعية مختلفة، وأحيانًا يكون التوزيع الجغرافي غير متكافئ فهناك مناطق فيها بيانات أكثر، وأخرى أقل وهذه البيانات الضخمة تساعد الشركة على تحسين النماذج والخوارزميات بمرور الوقت.
وتستفيد بعض الشركات من البيانات المنشورة في مشاريع علمية عامة مفتوحة مثل مشروع الألف جينوم ومشروع الخرائط الوراثية للشعوب ومشروع التنوع الجيني البشري وقواعد بيانات وطنية أو إقليمية مثل UK Biobank أو gnomAD، لذلك فقد يحدث اختلاف في النتائج بين الشركات يرجع إلى تنوع وحجم العينات المرجعية التي تبني عليها الشركة خوارزميات التحليل والمقارنة المستخدمة وحجم قاعدة بيانات عملائها.
إلا أن علماء الجينات الأكاديميين والباحثين في المراكز المختصة بالوراثة لهم رأي آخر حول اختبارات الأنساب التجارية متباين، وغالبها يميل إلى الحذر والتحفظ العلمي، فعلماء الوراثة يرون أن هذه الفحوصات ليست دقيقة بشكل مطلق في تحديد الأنساب البعيدة، وذلك لأنها تعتمد على مقارنة جيناتك مع عينات مرجعية محدودة، وهذه العينات لا تغطي كل التنوع البشري وقد تُظهر نتائج مختلفة بين شركتين بسبب اختلاف قواعد البيانات والخوارزميات، والنسب المئوية (مثلاً 20% عربي، 10% فارسي…) وهي تقديرات إحصائية وليست قياسات يقينية بسبب غياب المرجعية الشاملة، إذ لا توجد قاعدة بيانات عالمية موحدة تمثل كل الأعراق والشعوب بدقة.
فبعض المناطق (مثل أوروبا وأمريكا الشمالية) ممثلة بشكل كبير، بينما مناطق مثل الجزيرة العربية، إفريقيا، وآسيا الوسطى أقل تمثيلًا، ما يؤدي إلى نتائج ناقصة أو ليست دقيقه.
وكثير من العلماء خصوصًا في مراكز مثل جامعة هارفارد، ومعهد برود، والجمعية الأمريكية لعلم الوراثة البشرية يؤكدون أن هذه الشركات تستخدم لغة تسويقية لإقناع الناس، بينما القيمة العلمية الحقيقية محدودة وبعضهم يصفها بأنها أقرب إلى “اختبار ترفيهي ” أكثر من كونها فحصًا علميًا صارمًا.
وهناك إجماع علمي على الاستخدام الحذرحيث أن الفحوصات قد تكون مفيدة في التاريخ الجيني العام مثلًا معرفة أصول الإنسان الأول، الهجرات الكبرى، أو تحديد صلات بعيدة، ولكنها غير موثوقة في إثبات النسب الدقيق لقبيلة أو عائلة معينة على مدى قرون طويلة.
وعلماء الوراثة الشرعيون ينصحون بعدم استخدامها في قضايا إثبات النسب أو الهوية دون أدلة إضافية. وهناك قلق علمي وأخلاقي من استخدام بيانات الجينات لأغراض تجارية فبعض العلماء يحذرون من أن بعض الشركات قد تبيع البيانات لشركات دوائية أو تستخدمها في أبحاث دون وعي كافٍ من العملاء.
ولهذا فأن علماء الجينات يرون أن هذه الفحوصات تصلح فقط كأداة ترفيهية أو استكشافية لفهم التنوع البشري والهجرات القديمة لكنها لا تكفي وحدها لإثبات نسب تاريخي أو عرقي دقيق، ويجب التعامل مع نتائجها بحذر شديد.
وفي هذا الصدد يقول البروفيسور ديفيد رايش في جامعة هارفارد، قسم علم الوراثة البشرية إن هذه الفحوصات تقدم ” قصصًا مبسطة أكثر مما تحتمله الحقيقة ” لأن التركيب الجيني للبشر معقد جدًا يوضح أن نسبة “20% من أصل كذا” هي مجرد تقدير إحصائي يعتمد على مقارنة الشخص بعينات مرجعية، وليس قياسًا يقينيًا.
وتؤكد الجمعية الأمريكية لعلم الوراثة البشرية (ASHG) أن نتائج فحوص الأنساب تعتمد على قاعدة بيانات الشركة نفسها، وبالتالي “قد تعطي نتائج متناقضة لنفس الشخص إذا فحص نفسه في شركتين مختلفتين”.
وعلميًا فأن هناك مشاكل قد تحدث في قواعد البيانات فقد ذكرت البروفيسورة سارة تيشكوف في جامعة بنسلفانيا أن الشعوب غير الأوروبية خاصةً الشرق الأوسط وإفريقيا “ضعيفة التمثيل” في قواعد بيانات الشركات، وهذا يسبب انحيازًا في النتائج وتضيف أن بعض الشركات تُظهر نتائج مفصلة جدًا للأوروبيين، بينما تضع كل الشرق الأوسط أو إفريقيا في فئة عامة واحدة.
ومشروع 1000 Genomes Project وHGDP مشروع التنوع الجيني البشري هذه المشاريع العلمية استخدمت عينات عالمية، ولكن الشركات لا تستند إليها فقط، بل تعتمد أساسًا على عينات عملائها، ما يخلق تباينًا كبيرًا.
وأصدر المعهد الوطني للصحة (NIH) – أمريكا تنبيهًا بأن هذه الاختبارات تعتبرعلم مواطن ترفيهي أكثر من كونها اختبارًا علميًا صارمًا والهدف التجاري فيها بيع الخدمة وربطها بالفضول الشخصي أكبر من الهدف العلمي.
ويرى البروفيسور إيريك توبول في معهد سكريبس للأبحاث الطبية أن الشركات تستخدم لغة تسويقية مغرية لكنها مضللة حيث توحي بالدقة العالية بينما هي مجرد احتمالات.
ويؤكد المجلس القومي للأكاديميات العلمية أنه لا يمكن الاعتماد على هذه الاختبارات لإثبات “هوية عرقية أو نسب قبلي أو عائلي” بشكل قانوني أو علمي ويرى أنها مفيدة فقط لفهم الهجرات القديمة والتنوع البشري العام.
وتعد المختبرات الجنائية أن هذه الفحوص “غير صالحة كأدلة قضائية” في قضايا إثبات النسب أو الانتماء القبلي/العرقي.
وبعض الدراسات نشرت في مجلات مثل Science و PNAS أثبتت أن النسب المئوية التي تعطيها الشركات (مثلاً 30% شرق أوسطي، 10% شمال إفريقي…) قد تتغير لو فحصت نفسك في شركة أخرى وهذه الفروق قد تصل من 20–30% اختلاف لنفس الشخص!هذا يثبت أن النتائج تعتمد أكثر على الخوارزمية وقاعدة البيانات وليس على الحمض النووي وحده.
وعلماء الوراثة ينصحون باستخدام هذه الفحوص في التاريخ التطوري العام للبشرية (مثل معرفة الهجرات من إفريقيا إلى آسيا وأوروبا) وفي البحوث الطبية مثل ربط بعض الطفرات بجذور جغرافية معينة وإيجاد أقارب محتملين خلال 3–5 أجيال لكنهم يرفضون استخدامها لإثبات النسب العرقي الدقيق والأنساب القبلية أو العائلية البعيدة لذلك، في أوروبا تم سن قوانين صارمة تحد من استخدام هذه البيانات.
ويؤكدون العلماء أن “النسب البعيد” لا يمكن تحديده بدقة مخبرية لأن الجينات البشرية متداخلة ومعقدة وأن استخدامها للفضول، أوالبحث العائلي القريب، أو فهم التاريخ البشري العام، وليس لإثبات الأنساب أو الأصول القبلية/العرقية.
ومن خلال هذه المعطيات العلمية وأراء المختصين فأنه لا يمكن الركون والتسليم المطلق لنتائج هذه االفحوصات على أنها حقائق دقيقة لأثبات النسب الجيني لقرون بعيده وأنما تؤخذ هذه المعلومات على أنها تقريبيه.