
السيد فاضل آل درويش
ورد عن أمير المؤمنين (ع) وصيته لتلميذه كُميل بن زياد: يا كُميل، ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة)(تحف العقول ص ١٧١).
هذه التحفة السنية تقدّم إثارة فكرية تنير العقل بالوعي وإدراك حقائق الأمور قبل التقدّم لخطوات قد ترديه في الهاوية أو تأخذ بيده نحو التيه والضياع، مما يضع قيمة عالية للنضج الفكري والقدرة على رسم الأهداف واتخاذ القرارات المناسبة، بعيدًا عن حالة الحيرة في التقدم أو الإحجام أو اتخاذ الخطوات العاطفية أو الانفعالية التي يتكشّف بعد تلك الخسائر المترتبة عليها، وهذا يعني أن العلاقة بين الفرد والفعل والتصرفات تتم عبر مجهر الوعي والإدراك، التي تحكم كل حركة وسكون ، فكل فعل أو انتقال أو خيار أو توجه – سواء مادي أو معنوي – يدخل ضمن نطاق الحركة ، فيشمل النية والقرار وطريقة التفكير والكلمة قبل التفوّه بها والخطوات العملية، مما يعني أنّ الإنسان لا يستطيع التحرك حركة صحيحة ومثمرة إلا إذا كانت قائمة على فهم ووعي وتقدير للعواقب.
المنهج المعرفي لا يقتصر على جانب تلقي المعلومات وتكوين الزاد والمخزون، بل هو منهجية تفكير كأساس لكل سلوك فتحدّد الاتجاه الأصوب وتحفظ الفرد من الوقوع في الخطايا وحُفر الضياع، فقبل الإقدام على أي خطوة لا بد من النظر إلى آثارها المترتبة علينا والاحتمالات الناتجة عنها، فكل قرار يحتاج إلى دراسة وتأمل يجنّبنا قرارات لها تبعات مستقبلية، فوجود الأخطاء وأوجه التقصير يجنّبنا الحياة المثالية الزائدة ويبعث فينا روح الإصرار والنهوض مجددًا بعد كل تعثّر، كما أن العلاقات الاجتماعية قائمة على محددات للاختيار وبناء جسور الثقة والتعاون، مع ملاحظة التفاوت والتباين في الشخصيات وكيفية التعامل معهم دون الدخول في مناكفات وخلافات، فنفكّر في أي كلمة أو تصرف مع الآخرين قبل الإقدام عليه.
والخلاصة أن هذه الوصية تمثّل مصدرًا غنيًا للفكر الإنساني لما تحويه من مضامين معرفية وأخلاقية وروحية عميقة، ومن بين هذه الوصايا تبرز مقولته لتلميذه كُميل بن زياد: (ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة)، كمفتاح لتحليل علاقة الإنسان بالمعرفة وموقع العقل في توجيه الفعل الإنساني، فيجعل (ع) من المعرفة شرطًا ملازمًا لكل حركة فلا فعل يمكن أن يُعدّ رشيدًا ما لم يكن مؤسسا على معرفة، وهذا يُبرز أهمية التأسيس المعرفي لأي ممارسة سواء أكانت دينية أو اجتماعية أو أخلاقية، فالإنسان لا يكون حرًا بالفعل إلا إذا كان مدركا لعواقب أفعاله و واعيا بأبعاد قراراته، وبدون المعرفة تتحول أفعال الإنسان إلى مجرد ردود أفعال غريزية أو تقليد أعمى أو خضوع للجهل والتضليل.
المعرفة تُمكّن الإنسان من إدراك واجباته وحقوق الآخرين وحدود الأفعال اللائقة والمناسبة، ولذلك فإن كل حركة تصدر عن الإنسان دون معرفة قد تكون سببًا للانحراف أو الإضرار بالآخرين، فهذه الحكمة تدعونا إلى إعادة النظر في كيفية فهمنا للمعرفة و دورها في الحياة كمحور و سياج تنويري وأخلاقي.