
عماد آل عبيدان
تلك الشقّة المطلة على شارع عام في تلك المدينة كانت شقة غريبة! يمرّ بها الناس كأنها غير موجودة. جدرانها حديثة، أصباغ حيطانها مصبوغة بألوان هادئة تبعث الطمأنينة، ولكنّها تُخفي في باطنها حياةً لا يجرؤ أحد على كشفها. كانوا يتهامسون: “تلك شقّة إبليس”.
إبليس رجل أنيق في المظهر، هادئ في صوته، بارع في استضافة ضيوفه. يُقدّم الضيافة، الشاي، القهوة، يُهيّئ مجلسه، ثم يترك ضيفه يتكلّم ويُفضي بما في صدره، ولا يعلّق إلا بكلمات قليلة، كلمات تنغرس كالمسامير في الوعي، لم يكن ذا قرنين ولا ذيل ولا لسان من لهب، كما قد تعتقد.
طرق “خليل” باب الشقّة في أحد الأيام. كان موظفًا مرهقًا، قد أثقلته ديون لم يعرف كيف يسدّدها، وغرق في هموم أسرية لم يجد من يصغي لها. قال له صديق مرة من المرات، وهو يضحك بسخرية: “اذهب إلى ذاك الرجل في الشقّة، ستخرج منها بأخفّ قلب وأوضح عقل”. ضحك خليل يومها، ولكنه حين ضاقت عليه الدنيا وجد نفسه واقفًا أمام الباب.
فتح إبليس له مرحبًا، بوجه يفيض بالهدوء. جلس خليل مرتبكًا، يروي قصّته. لم يقاطعه إبليس، تركه يروي وجعه كلّه، ثم قال بهدوء:
– “كلّ ما تعانيه، سببه أنك تحمّل نفسك ما لا طاقة لك به وما لا تحتمل. الحياة لعبة مصالح، فلماذا تُصر أن تكون نزيهًا وسط لاعبين لا يعرفون النزاهة؟”.
تردّد خليل، ولكنّ الكلمات علقت في رأسه. كرّر إبليس جملته كمن يضع مرآة أمامه: “النزاهة لا تطعم أطفالك”. فجأة بدا لخليل أن الجملة واقعية أكثر مما يجب.
حين خرج من الشقّة، لم يكن كما دخل. حمل معه فكرة صغيرة: أن يزوّر تقريرًا ماليًا في الشركة ليُسدّد ديونه. كان يرى نفسه قبل ذلك “نظيف اليد”، أما الآن فأصبح “واقعيًا” كما أقنعه إبليس. في البداية تردّد، ثم جرّب خطوة واحدة، تلتها أخرى، حتى غرق. لم يكتشف أحد الأمر مباشرة، ولكن خليل اكتشف شيئًا آخر: أنه لم يعد يطيق النظر في وجه ابنه إذا ما سأله عن معنى الشرف.
مرّت أسابيع، وتحوّل خليل إلى رجل آخر. صار ساخرًا من القيم التي كان يرفعها، يضحك على زملائه الذين يتمسّكون بالمبادئ، يصفهم بالسطحية والسذاجة. كان يظن أنّه يسيطر على حياته، بينما الحقيقة أنه صار أسيرًا للشقّة التي غادرها بجسده ولم يغادرها بروحه.
الحقيقة أنّ شقة إبليس تتنقّل في كل شارع، وتظهر في كل هيئة، لم تكن حجارة أو مكانًا ثابتًا. إنها: في مكتب يُغريك بالتحايل، في صديقٍ يُزيّن لك الخيانة، في شاشة تبرّر لك الكذب، في فرصة تُدغدغ ضعفك. الشقّة لم تكن خارجنا بقدر ما هي كامنة في داخلنا، تنتظر لحظة الانكسار كي تفتح أبوابها.
وخليل لم يكن أول الداخلين، ولن يكون آخرهم. فالمدينة تمشي، مزدحمة بالوجوه المختلفة، وكلّ واحد يحمل في جيبه مفتاحًا صغيرًا، يُقرّر بنفسه: هل يفتح باب الشقّة أم يُلقي المفتاح في البحر ولا يعود؟