أقلام

أهمية الإحساس في التراث العمراني

م. الشيماء الشايب

في إطار جهود جمعية التراث العمراني لإعداد المختصين في التراث العمراني، أعددت حقيبة تدريبية على إثرها أقيم برنامجان، أحدهما في العاصمة الرياض لمدة ثلاثة أيام بتاريخ ٢٨ – ٢٩ – ٣٠ أغسطس ٢٠٢٥م والآخر بمدينة الهفوف بالأحساء بتاريخ ٥ – ٦ سبتمبر ٢٠٢٥م. وكان لافتًا حضور الجنسين من المهتمين وأصحاب الخبرة في التراث العمراني، مما أدى إلى حالة جميلة من التفاعل ومناقشة الأطروحات بمعرفة.

وفي جانب من ورشة العمل كانت الرؤى كلاسيكية، في بيان أهمية التراث العمراني للدول والمجتمعات وإعادة التأهيل واقتصاديات التراث العمراني.

توقفت كثيرًا لكون هؤلاء المختصين سيكونون قادة التأثير الاجتماعي في التراث العمراني، وأن الحالة المعتمدة على سياقات التعريف وتاريخية المكان وبعدها الاستخدامي وغير ذلك مما يؤطر وسائل التعريف بالتراث العمراني وهو متداول خاصة عند المرشدين السياحيين، وفي الوقت نفسه هو أيضًا في محل ضرورة معرفية للمتلقي الزائر والمستخدم.

ولكنني في وقفتي وجدت أن ذلك غير كافٍ للمختصين المؤثرين في وعي الآخرين.

كنت أبحث عن مدخل قوي يولد خبرة ترويجية سياحية عن المكان لا تُنسى من جهة، ومعرفية من جهة أخرى وهي الأهم لضمان الاستدامة ونقل التجربة، وتكون في محل تحفيز للزيارة سواء العودة أو زيارة الآخرين. من هنا وجدت أن تفعيل الإحساس بالتراث العمراني يكون مدخلًا مهمًا، وعملت على صياغة ذلك من خلال تفعيل الحواس الخمس.

وإذا كانت حاسة البصر تأخذ كل الحيز في الوقت الحاضر بما يعرف بالتغذية البصرية، وهو ما يتم العمل عليه حين الإرشاد والزيارة لمواقع التراث العمراني، ومع أهمية الإبصار يبقى إثارة ذلك من خلال مواطن كما يُقال “العمارة في الزوايا”، فإن هذه المهمة أيضًا ليست سهلة وإدراكها يحتاج لتوظيف الإبصار في الزمكان، حيث يؤثر الوقت (نهارًا أو عند غروب الشمس أو ليلًا على سبيل المثال) ونقاط الوقوف والتأمل، بل يلزم أحيانًا المعرفة المسبقة لتحديد الزمكان للزائر، وهذا يتطلب من المختص معرفة أدق عن موقعية التراث العمراني وخصائص الوقت وعلاقته ببيئة المنشأة أو الموقع.

وعندما بادرت رياديًا بسبق الطرح لبقية الحواس، رأيت في الورشتين حالة الدهشة من الزملاء وتم تنبيههم، وكنت أقرأ ذلك عن طريق التفاعلية معهم. فوجدت أن التنبيه لمكمن حسي يجب أن يكون محل استعمال في إنماء الوعي والرابطة الإنسانية بين الشخص والتراث العمراني، وقد لازمت ذلك بأمثلة تجريبية.

وبدءًا من حاسة اللمس التي نتعرف بها على الخامات المختلفة كالخشب والطين والجص والصخور، وغيرها، هل هي ناعمة الملمس أم خشنة؟ وهل هي طبيعية أم تم معالجتها مثلًا بأصباغ وغيرها؟

وكانت حاسة الشم مهمة أيضًا إذا تم تفعيلها، سواء رائحة المواد أو متممات العمارة أو صيغة الرائحة التي يمثلها عبق المكان، فلربما رائحة السمك هي المسيطرة في مباني بندر العقير، ولربما رائحة التوابل هي المسيطرة في سوق القيصرية، ورائحة الروث المسيطرة في مباني إسطبل الخيول وهكذا، وهو ما أسميه “رائحة المدينة”.

والحديث عن حاسة السمع يحرّكنا إلى الكثير من المعطيات، فمبنى التراث العمراني في الحقول يؤثر فيه تغريد البلابل وحفيف الشجر، وصوت الريح الذي يعبر من الدرايش، وربما يكون في المنشأة خرير مياه في نافورة، أو صوت ماء من مرازم بالشتاء وغيرها.

أما حاسة الذوق فتفعيلها معتمد أحيانًا على التجربة المضافة للمنشأة من خلال الأطعمة أو وجود موسمية النباتات وغيرها.

إن تفعيل الحواس الخمس لا يعني أن تشتغل كل حاسة لوحدها، فهي مترابطة مع بعض، بل لا يمكن فصلها عن بعض، وهو ما يدعونا مسبقًا إلى أن نهيئ ملبسًا خاصًا وأن نعتمد أحيانًا على المشي أو التسلق، وما يدعونا لملاحظة الفراغات العمرانية والإطلالات، وربما يدعونا للجلوس والاسترخاء أو المشي والركض، بمعنى استخدام كل ما أمكن من الحالات التفاعلية.

هذه النظرية الجميلة، “الإحساس بالتراث العمراني”، هل تصلح أن تكون مدخلًا للتعريف وإنماء الوعي بالتراث العمراني؟

من خلال تفاعل الزملاء في الورشة للمختصين أدركت إيجابية ذلك، ولذا أوصي أن تُستخدم نظريتي هذه مستقبلًا، سواء في جمعيتنا جمعية التراث العمراني أو من خلال التعليم العمراني والمختصين في علوم التراث العمراني.

لقد كانت فرصة جميلة ومشكورة لإعداد هذه الأطروحة، متمنية توسيعها لتعم الفائدة بما يعود على استدامة الوعي بالتراث العمراني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى