
م. أشرف آل سلمان
هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرضَ ذَلُولا فَٱمشُوا فِی مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزقِهِۦ وَإِلَیهِ ٱلنُّشُورُ﴾ (الملك: 15)
كم من أبنائنا الطلاب يقف حائرًا أمام عشرات الاختصاصات الجامعية ولا يدري l أيّها يناسبه؟ وكم من موظفٍ ناجحٍ في نظر الناس ولكنه في داخله يشعر بالفراغ وكأنه يعيش حياةً مهنية لا تشبهه؟ وكم من متقاعدٍ يظن أن رحلته انتهت، بينما يمكنه أن يبدأ رحلة جديدة في خدمة المجتمع؟
كل هؤلاء يشتركون في سؤال واحد: من أنا وإلى أين أتجه؟ فهل يوجد علم أو مجال يساعد الإنسان على فهم ذاته واتخاذ قراراته المهنية بوعي؟ نعم، إنه الإرشاد المهني.
ما الإرشاد المهني ؟
هو مجال يهتم بمساعدة الأفراد على معرفة أنفسهم أولًا من خلال اكتشاف ميولهم المهنية، ونمط شخصياتهم، وتحديد نقاط قوتهم، وقيمهم، ثم بعد ذلك اكتشاف ما يناسبهم مهنيًا من الفرص المتاحة في سوق العمل. فبدل أن يعيش الإنسان وفق الصدفة أو ضغط المجتمع، يصبح قادرًا على اختيار الطريق الذي يناسب شخصيته وقيمه وأهدافه.
يهدف الإرشاد المهني إلى أن ينتقل الإنسان من الضياع إلى الهدفية، ومن العشوائية إلى الوعي، ومن التقليد إلى الاختيار الحرّ. فبدل أن يختار مهنته تحت ضغط المجتمع أو الظروف، يصبح قادرًا على أن يقول بثقة هذا مكاني وهذه مهنتي التي أفضلها وأبرع فيها.
﴿قَالَ ٱجعَلنِی عَلَىٰ خَزَآىٕنِ ٱلأَرضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیم (يوسف: 55) النبي يوسف عليه السلام طلب تولي منصب يناسب قدراته ومهاراته ومعارفه التي حباه الله سبحانه بها، وهو مبدأ رئيس في اختيار الانسان لدوره ومهنته فكلٌ ميسر لما خلق له.
الإرشاد المهني ليس مجرد نصيحة عابرة من شخص ذي خبرة، وليس دورة لتعلّم كتابة السيرة الذاتية فحسب، بل هو علم يقوم على أسسٍ نفسية وتربوية تساعد الإنسان على فهم ذاته وفهم مكونات سوق العمل، لكي يتخذ الفرد قراراته المهنية بوعي واتزان.
أدوات المرشد المهني
لا يقوم الإرشاد المهني على الانطباعات أو النصائح العامة، بل يعتمد على أدوات علمية وتشخيصية تساعد المرشد على فهم العميل بدقة. ومن أبرز هذه الأدوات الاختبارات والمقاييس النفسية والمهنية التي تكشف عن الميول، والقيم، والأنماط الشخصية، مثل مقياس هولاند الذي يصنف الميول إلى ست فئات مهنية، أو مقياس MBTI الذي يساعد على فهم أسلوب التفكير واتخاذ القرار. كما يستخدم المرشد المقابلات الإرشادية التي تتيح له الإصغاء العميق والتفاعل مع مشاعر العميل وتجربته الواقعية، فيساعده على رؤية خياراته بوضوح أكبر. ومن أدواته أيضًا نماذج اتخاذ القرار التي تساعد العميل على المفاضلة بين البدائل بطريقة منطقية وواعية.
وفي الجهة المقابلة (جهة السوق) يتابع المرشد المهني الأخبار والتقارير الصادرة من عدة جهات ذات العلاقة سواء المحلية أو الدولية حول مستجدات سوق العمل والفرص المتوافرة فيه والمهارات التي يجب أو يتعلمها من يريد خوض غمار السوق وينجح فيه.
كل هذه الأدوات تمنح المرشد المهني بوصلة تساعده في توجيه الأفراد نحو الطريق الأنسب لقدراتهم وطموحاتهم.
من يستفيد من الإرشاد المهني؟
الإرشاد المهني لا يقتصر على الطلاب أو الباحثين عن عمل، بل يخدم كل من يمرّ بمرحلة مفصلية في حياته العملية.
فهو يوجّه طلاب الثانوية لمساعدتهم على اختيار الاختصاص الجامعي الذي يتوافق مع ميولهم وقدراتهم؛ فمثلًا طالب يحب حلّ المشكلات ويميل للتقنية قد يُرشَد نحو تخصص هندسة البرمجيات بدل إدارة الأعمال لمجرد أنها شائعة بين أقرانه.
ويخدم خريجي الجامعات في مرحلة الدخول إلى سوق العمل، بمساعدتهم على فهم مهاراتهم وميولهم وقيمهم المهنية وصياغة مسار مهني واضح، كخريجة الإعلام التي تكتشف عبر جلسة إرشاد أن قوتها في كتابة المحتوى أكثر من العمل الميداني.
كما يستفيد الموظفون الذين يشعرون بالركود أو عدم الرضا المهني من الإرشاد لإعادة توجيه مسارهم نحو مجالات أكثر انسجامًا مع قيمهم وطموحاتهم؛ كموظف إداري اكتشف أن شغفه الحقيقي في التدريب والتطوير.
حتى المتقاعدون يجدون في الإرشاد المهني وسيلة لاكتشاف فرص جديدة للعطاء بعد انتهاء خدمتهم، كمن حوّل خبرته الطويلة إلى استشارات تطوعية أو مشاريع صغيرة تعيد له حيوية الإنجاز.
لماذا يهمّنا هذا المجال اليوم؟
في عالمٍ يتغيّر بسرعة، لم يعد التعليم وحده كافيًا ليقودك إلى النجاح المهني. الوظائف تتبدل، والمهن الجديدة تظهر، والمهارات المطلوبة تتغير كل عام. من هنا أصبح الإرشاد المهني جزءًا رئيسًا من بناء الإنسان وتمكينه، وركيزة لتحقيق الرؤية الوطنية 2030 التي تجعل المواطن محور التنمية. الإرشاد المهني لا يخدم الأفراد فقط، بل يخدم المجتمع بأكمله، فكل شخص يعمل في مكانه المناسب، يحقق إنتاجية أعلى، ورضا نفسي أعمق، ويسهم في نهضة وطننا الغالي بطريقة أكثر كفاءة وفعالية. فكل موظف في المكان المناسب يرفع الإنتاجية ويزيد الرضا الوظيفي ويعزز جودة الحياة له ولكل المحيطين به.
أمثلة من الحياة
• شابٌ اختار اختصاص الطب لأنها رغبة الوالد، ثم اكتشف بعد سنوات أن شغفه الحقيقي في التصميم الداخلي… ساعده الإرشاد المهني على التحول الناجح.
• موظفة شعرت بالاحتراق المهني، فاكتشفت عبر جلسات الإرشاد أنها بحاجة إلى دور أكثر إبداعًا وتعبيرًا عن الذات.
• متقاعد ظنّ أن العطاء توقف، فوجد نفسه يبدأ مشروعًا صغيرًا يستثمر خبرته الطويلة في خدمة المجتمع.
هذه الأمثلة وغيرها تؤكد أن الإرشاد المهني ليس رفاهية، بل هو بوصلة الحياة العملية.
ختامًا…
الإرشاد المهني لا يفرض عليك وظائف محددة، بل يساعدك أن تعرف نفسك أولًا لتقرر أنت الطريق ثانيًا. إنه رحلة لاكتشاف المعنى في العمل، وليس مجرد البحث عن أية وظيفة عشوائيًا!
فاسأل نفسك: هل تعرف إلى أين تتجه؟
ربما يكون الوقت قد حان لتبدأ رحلتك مع الإرشاد المهني… لتكتشف أنك كنت تبحث عن نفسك منذ البداية!
م. أشرف السيد تاج الأحمد آل سلمان، مرشد مهني معتمد من الجمعية الأمريكية للإرشاد المهني NCDA، والمدير التنفيذي لجمعية هجر الفلكية.