أقلام

العبور

السيد فاضل آل درويش

كثيرًا ما نتساءل عن مظاهر وخفايا الرحيل وما يستتبعه من آثار وتحوّلات قد تبدو مخيفة لدرجة كراهية النطق أو الاستماع لكلمة الموت، وذلك ليس من باب جهالة بهذه الحقيقة الناصعة أو امتلاك الوسائل المانعة من ذلك، بقدر ما هو التصاق بمظاهر البهجة والتواصل الاجتماعي وأنس النفوس بالزينة من حولها، والأمر لا يقتصر على فكرة الرحيل في صعوبة تقبّلها والتعايش معها كسبيل لا مفرّ منه، بل يتعدّاها لشمولية أكبر من ذلك فتتجاوز إلى كل أشكال وأنماط التغيّر والتحوّل والانتقال من مرحلة إلى أخرى، فكيف بتلك المرحلة الأصعب المتمثّلة بالوجود المؤقت بأجل معين والانتقال إلى الأبدية الغامضة في مآلها وتفاصيلها؟!

مسألة الرحيل لا تتعلّق بالبُعد الديني لوحده بل يسع الفكر الإنساني ومساره ونهجه في الحياة بعد وضع أُطُر لإدراك ذاته وتحقيق وجوده الأسمى والأفضل بعيدًا عن هوامش سرابية تضيع عندها الهويات، فبقدر ما يملك الفرد من وعي ونضج يستطيع أن يحوّله إلى فعل خارجي يتمثّل بالعيش الكريم والتعامل بصدق واحترام، إنه استثمار رأس المال الزمني (العُمُر) وإضفاء لمسات ومعنى لكل لحظة زمنية من حياته لها رونقها وعطرها وبلسمها الخاص به، ففكرة الرحيل تخرج عن بعدها المستقبلي وانتظارها كريح داهمة تخفي وجوده تحت الرمال؛ لتتحوّل إلى أصالة وجودية وفاعلية تظهر فيها بصمات تعبّر عما يمتلكه من نضج واتزان وعمل مثابر وصناديق يصفّها تمتليء بإنجازات، وإلا فإن (ميّت الأحياء) والرحيل يصدق على الغارق في زيف تفاصيل يومية لا تعبّر إلا عن الفراغ وعدم الهدفية وانعدام القيمة.

وليس هناك من تعامل أمثل مع فكرة العبور من الحياة الدنيا كالاستعداد والتهيؤ لفكرة الانتقال، وهذا الشعور لا يمثّل أغلالا تنهي فكرة تكوين الذات وتنميتها وبلورة الطموحات، وإنما هو فهم عميق لحقيقة لا يغفل عنها في مجريات حياته فيتحرّر من قيود الأنانية وشح النفس والتكبّر، فإذا بلغ صفاء الذهن وطمأنينة النفس صار رحيله خفيفًا ولا تختفي منه ملامح الأمل والتفاؤل، فكل التفاصيل البسيطة والإنجازات الصغيرة في حياته ككلمة صادقة وعطاء حسن وتنمية زاده المعرفي تأخذ بيده نحو بصمة وجودية حقيقية، فحين ينظر الإنسان إلى حياته ويجدها مليئة بالتجارب والمعاني المستخلصة منها، يشعر بالسلام الداخلي ويكون مستعدًا للعبور دون ندم، أما من امتلأت حياته بالخيبات والخطايا وتلبّس بالمعايب فإنه يقع فريسة اليأس والخوف من النهاية المؤلمة.

البصمة الوجودية أثر يدل على وجود إنسان عمل بكل ما يستطيع وما يمكن لإعطاء حياته قيمة ومكانة، فالتسامح والتخلّص من المشاعر السلبية تجاه الآخرين تثبت وجودًا متألقًا، وتلك الكلمة الطيبة يبقى أثرها كالنهر الحاري لا يمكن أن تُنسى، فحين نعيش بهذه الطريقة نصبح مستعدين للرحيل في أية لحظة — لا لأننا نريده ونبتغيه، بل لأننا اكتملنا إنسانيًّا واستطعنا التخلّص من الأفكار السلبية والتصرفات المسيئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى