
السيد فاضل آل درويش
ورد عن أمير المؤمنين (ع): (أول المروءة طلاقة الوجه وآخرها التودد إلى الناس)(عيون الحكم والمواعظ ص ١٢٤).
العلاقة بالآخرين في تمظهراتها تبرز معلمًا مهمًا من شخصية الإنسان وقناعاته ورؤياه حول طبيعة العلاقات الاجتماعية المستقرة والراسخة، فأهم مباديء ذلك التفاعل الإيجابي معهم هو الاحترام والتقدير للآخر في شخصيته دون التجاوز عليه بأي شكل من الأشكال، وتُعد المروءة من أسمى القيم الأخلاقية التي تشكل جوهر الشخصية الإنسانية النبيلة، وهي تكوين يمزج بين تلك التعاملات الحسنة والأخلاق الفاضلة والمواقف الرفيعة التي تميز الإنسان الشريف عن غيره، ولا يقتصر دور ذلك الجوهر الإنساني الجميل (المروءة) على ذات الفرد في تهذيب النفس وتخليها عن المشاعر السلبية والتعاملات الفظة والقاسية، بل يمتدّ إلى مستوى المجتمع وعلاقات أفراده والبعد فيها عن التوترات والمناكفات وما يستتبعها من خلافات عاصفة.
وفي هذه التحفة يقدّم لنا الإمام (ع) منهجية وخريطة طريق لبناء علاقات وازنة ومؤثرة، ويشير إلى هذه الجوهرة في العلاقات منذ بدايتها والإمساك بطرف الخيط فيها (طلاقة الوجه) وصولًا إلى نهاياتها وبلوغ القمة فيها (التودّد)، وهو ما يتطلّب تسليط الضوء على تلك الأبعاد النفسية والسلوكية والاجتماعية التي يمكن من خلالها التعرّف على مضامين ومرامي تلك الحكمة، فما هو المقصود بجوهر العلاقات الاجتماعية الفاعلة، التي عبّر عنها الإمام (ع) بمفهوم المروءة؟
المروءة سمو النفس في طريق الفضيلة وصفاء السريرة من الكراهية والأحقاد ونجابة أخلاقية تحفّز صاحبها على تجنّب الإساءة للغير، فالمروءة هي الالتزام بما يُجمِّله الدين الحنيف والعقل الواعي من جميل الخصال وحسن السلوك وعلو الهمة، وهي تشمل أفعال الإنسان بخصوص نفسه وتنزيهها من رذائل الأخلاق والنقائص ومع محيطه الأسري والاجتماعي، بحيث تكون أفعاله وأقواله ومجمل ما يصدر منه انعكاسًا لنبل داخلي وتعبيرًا عن أسلوب تعامل ومنهجية حياة لا مجرد تظاهر خارجي وتلاعبات مصلحية بمشاعر الآخرين.
وأول صفات أهل المروءة والسجايا الحسنة هي بشاشة الوجه وحسن استقبال الغير بما يشيع جوًّا اجتماعيًّا يتّسم بالأريحية عند اللقاء بالآخرين، وهو ما يعكس مضمونًا جوهريًّا في الإنسان يحمل معاني الاحترام والتواضع وتقدير الآخرين والتحلي بالقدرة والوعي اللذين يمنعان صاحبهما من التجاوز على الغير، فالبشاشة تُسهم في كسر الحواجز وتسهيل سبل التواصل وبناء جسور الثقة والتعاون، والابتسامة الصادقة المعبّرة عن خلو النفس من المشاعر السلبية وتأثيرات الاحتكاكات والتعاملات لها رونقها وسحرها الخاص في تجنب موارد التوتر والضغوط الحياتية.
وأما التودد فهو السعي إلى بناء علاقات قائمة على المحبة والاحترام ومراعاة قواعد التعامل الحسن مع الغير، وهو ممارسة وفعل يدل على الرغبة في الخير للآخرين والتفاعل الإيجابي معهم بعيدًا عن مناخات التشنج والتصرفات غير اللائقة أخلاقيًّا.
والتودد يتطلب نضجًا نفسيًّا وعاطفيًّا وانفعاليًّا وقدرة على التجاوز والتسامح، وهذا يدل على أن المروءة منظومة أخلاقية وقيمة متكاملة تبدأ من التفاعل الظاهري (طلاقة الوجه) وتنتهي بالتفاعل الجوهري (التودد)، وهذا يضع الفرد أمام مسؤولية مستمرة في حياته الاجتماعية حيث يُطلب منه أن يكون مرآة للأخلاق الحسنة في كل حال.