أقلام

قصص العاشقين 46 حلم أحمد وزوجته ميرا

عبد الكريم النمر

هناك أحلام تُزرع في القلب كجمرٍ صغير، تبقى دافئة مهما مرّت عليها السنوات، وتشتعل كلما اقترب المرء من تحقيقها.

هكذا هو حلم أحمد وزوجته ميرا، رحلة الشوق والحنين إلى موضعٍ وطِئه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله، حيث يلتقي العاشقون بنور السماء والأرض.

في ذلك اليوم تمنّيتُ أن أكون مع الصاعدين العاشقين إلى مصدر النور، ولكن الجسد خذلني، أو لعلّه صدّق وَهْمَ العجز الذي أوهمني به.

الطريق وعرٌ، والأنفاس تتثاقل، والجسد يعلن استسلامه عن الصعود، لكن الروح كانت معلّقة هناك، في الأعلى، حيث غارٌ شرّفه الله بأن وطِئه سيّدُ الأولين والآخرين.

جلستُ في استراحةٍ متواضعةٍ عند سفح الجبل، أراقب الوجوه الصاعدة والنازلة، علّني أرى أو أشمّ رائحة العاشقين، فربما — بل بكل يقين — قد التصق بهم عبيرُ الحبيب المصطفى.

جلستُ لا صاعدًا ولا نازلًا، فقلبي ارتقى معهم، وجسدي استسلم لهواه.

فالعاشق إن صدق، لا يحتاج إلى قدمٍ تصعد، بل يكفيه قلبٌ يسجد.

أخذتُ شهيقًا عميقًا، كأنّي أبلعُ الهواء بلعًا، وقلتُ في نفسي:

لعلّ نسيمًا مرَّ هنا يومًا على وجهه الشريف (ص) ما يزال عالقًا في هذا الهواء، يتنفّسه العاشقون دون أن يشعروا.

آه يا جبل النور، آه يا مصدر النور… كم من قلبٍ جلس عند قدميك وتمنّى أن يرى وجهه الشريف؟

هنا مرَّ الحبيب، هنا تجلّى الوحي، وهنا سجدت الأرضُ فرحًا بقدميه.

كأنّ المسافة إلى الله لا تُقاس بعدد الدرجات، بل بعدد النبضات التي تقول:

«أحبّك يا رسول الله، أحبّك يا رسول الله».

وبينما كنتُ غارقًا في أفكاري عند سفح الجبل، كسرتها ضحكاتٌ دافئةٌ لرجلٍ مسنّ تجاوز الثمانين، وامرأةٍ تتوكأ على عكازٍ تبدو في مثل عمره.

كانا نازلين من جبل النور الذي يبلغ ارتفاعه أكثر من ستمائة متر، ولكن وجهيهما لم يعرفا التعب، بل أشرقت عليهما ابتسامةٌ مدهشة، حتى إن ضحكتهما — أو لنقل قهقهتهما — كانت تصل إلى كل من حولهما.

اقتربا من الاستراحة الصغيرة التي أجلس فيها، وهي الوحيدة في ذلك الموضع، جلسا ليستردّا أنفاسهما، فرفعت رأسي مبتسمًا وبعد السلام قلت لهما:

يبدو أنكما سعيدان جدًا… ما سرّ هذه السعادة؟ وأنتما للتوّ قادمان من رحلة جبلية شاقة ومتعبة!

ابتسم الرجل وقال بلغةٍ عربية مرتّبة يغلّفها لحنٌ باكستاني جميل:

ـ هل تودّ سماع قصتي أم قصة زوجتي؟

قلتُ مازحًا:

ـ أودّ معرفة سرّ هذه السعادة أولًا، ثم أيّ القصتين تحبّ أنت أن أبدأ بها؟

ضحك وقال:

ـ لكلٍّ منّا قصة مختلفة، لذلك سألتك: هل تودّ سماع قصتي أم قصة زوجتي ميرا أولًا؟

أثار كلامه فضولي، فأدرتُ وجهي وجسدي نحوه تمامًا وقلت بحماس:

ـ بل أريد سماع القصتين معًا، فما أجمل قصص العاشقين!

بدأ حديثه بهدوءٍ يشبه صوت من يقصّ حكاية ما قبل النوم، بينما كنتُ أنا كطفلٍ يسلّم كلّ حواسه للراوي.

قال:

منذ كنتُ في العشرين من عمري، كان لي حلمٌ واحد… أن أصلّي في مكانٍ قد صلّى فيه رسول الله (ص).

أخبرتُ أبي بذلك، فوعدني أن يأخذني إلى مكة أو المدينة إن استطاع إلى ذلك سبيلًا.

كنتُ في كلّ عام، في موسم العمرة أو الحج، أذكّره بوعده، فيبتسم ويجدّد عهده لي.

كنتُ أظنّ أنه يؤجّلني، ولم أشعر إلا بعد أن صرتُ أبًا أن قلبه كان يتألم لأنه لم يكن قادرًا على تحقيق وعده.

عندما بلغتُ الثلاثين، تزوّجتُ، وكانت ميرا هذه نصيبي الجميل. بعد عامٍ واحد رزقنا الله ببنتٍ جميلة أسميناها فاطمة كاسم بنت النبي محمد (ص) حبًّا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله.

كانت الصغيرة تطلب منّي أشياء كثيرة كعادة البنات، وكنت ألبي ما أستطيع، ولكن ماذا أفعل بما لا أقدر عليه؟

كان الفقر يضع حدودًا لكل أحلامنا.

وعندما كانت تكرّر طلباتها، كنت أتألم وأنا أعدها ولا أستطيع الوفاء… عندها فقط أدركتُ ما كان يشعر به أبي حين كنت أذكّره بوعده القديم.

ومع مرور السنوات، كففتُ عن الحديث معه عن أمنيتي، ولكنه في شيخوخته قال لي وهو يبتسم بحزن:

“ستذهب يا ولدي… يومًا ما ستذهب، فالحبيب لا ينسى عاشقيه”.

قلتُ له لأخفّف عنه:

ـ لا تقلق يا أبي، لقد نسيتُ الأمر.

فقال:

“إذا لم يأخذك أبوك إلى هناك، فابنك سيوصلك يومًا ما… نيابةً عني.”

حينها شعرتُ أن الأب يتألم كثيرًا عندما لا يستطيع أن يهب أبناءه ما يتمنّون.

ومضت الأيام، رحل أبي، ورحل معه الحلم. ظننته انتهى إلى الأبد.

ولكن اليوم… بعد أربعةٍ وستين عامًا، صلّيتُ في المكان الذي طالما حلمتُ به.

ليس ركعتين فقط، بل ركعاتٍ طويلةٍ باكيًا في الغار المبارك… غار حراء.

سكت لحظة، ثم رفع رأسه وقال وهو يضحك بفرح طفلٍ صغير:

ـ أفلا يحقّ لي أن أضحك بصوتٍ مرتفع؟

كنت أنظر إليه صامتًا، مذهولًا، لا أدري ماذا أقول.

ضحك وقال ممازحًا:

ـ هل نمتَ يا ولدي؟

ابتسمتُ وقلت:

ـ لا، بل أُصغي إليك مستمتعًا بقصتك، وأتمنى أن أسمع الآن قصة زوجتك ميرا… قبل أن يصل التاكسي فيأخذنا إلى الحرم.

ضحك وقال:

ـ لقد أثقلتُ عليك بالتفاصيل، ولكني قصدتُ ذلك، حتى تتعلّموا ألّا تطلبوا من آبائكم ما يثقل عليهم، فيعيشوا متألمين ويموتوا متحسرين.

قلتُ في نفسي بإعجاب:

يا له من شيخٍ حكيم!

ثم التفتُّ إلى ميرا وقلت:

ـ وهل قصتكِ مثل قصة زوجكِ؟

ضحكتْ وقالت:

ـ لا يا ولدي، قصتي غير… قصتي مختلفة.

ثم تبسمت وهي تنظر إلى السماء قائلة:

ـ حلمي تحقق بعد خمسين عامًا يا ولدي… خمسين عامًا!

ابتسمتُ وقلت في نفسي:

يبدو أن لكل عاشقٍ موعدًا مع معشوقه… حتى وإن تأخر الحلم نصف قرن.

غدًا نسرد حكاية ميرا، التي بدأت بمأساةٍ في مدينة غُلمت شمال باكستان، وربما خُتمت — بعد خمسين عامًا — عند بقعةٍ مباركةٍ لامسها جسم الحبيب المصطفى (ص).

همسة عاشق:

بعض النِّعَم العظيمة لا تحتاج أن تُبحث عنها… فهي بيننا، في طيبة الطيبة، عند الحبيب الذي عشقته السماء قبل الأرض.

لا تؤجّل عشقك.

اطرق بابه، واسجد في روضته، فهناك سكينةٌ تهبّك ما لم يعرفه أهل الدنيا،

وستعلم أن أجمل حبّ هو حبّ من أحبّه الله، وحبّ عاشقيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى