أقلام

“من يصنع أفكاري” بين وعي القرآن وتوجيه الإعلام

زاهر العبد الله

أزمة التوجيه لا المعرفة

من آخر شخصية أو محتوى أثّر في طريقة تفكيرك؟

وهل تساءلت يومًا: من الذي يزرع فينا هذه القناعات؟

نحن لا نعيش أزمة معرفة، بل أزمة توجيه معرفة. فكثيرون يعرفون، لكن قلةً فقط يدركون من أين جاءت معارفهم وإلى أين تقودهم.

لسنا بحاجة إلى من يُخبرنا ماذا نعرف، بل إلى من يوقظ فينا السؤال الأهم: من الذي زرع فينا ما نعرف؟

قال تعالى:

﴿ وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (٣٦) ﴾ الأسراء.

إن الفكر اليوم يُصنع كما تُصنع السلع، ويُسوَّق كما تُسوَّق المنتجات، حتى أصبح كثير من الناس يستهلك الأفكار دون وعيٍ بمصدرها أو غايتها.

كيف تُصنع الفكرة في زمن الإعلام؟

في عالمٍ تتدفق فيه الرسائل والصور والمقاطع دون توقف، تُصنع الأفكار وفق آلياتٍ نفسية وإعلامية محكمة، تقوم على أربع ركائز رئيسة: التكرار، العاطفة، التأطير، العزلة.

1. التكرار

ما يتكرر يصبح مألوفًا، وما يألفه الإنسان يميل لتصديقه.

حين يُعاد على الأسماع والمشاهدات المعنى نفسه كل يوم، يتحول من الغرابة إلى القبول.

الشاب الذي يتعرض يوميًا لمقاطع تروّج أن “النجاح يعني الشهرة”، سيجد نفسه بعد حين مقتنعًا بها دون تمحيص.

فالتكرار يصنع الاعتياد، والاعتياد يصنع القناعة.

2. العاطفة

الإعلام الحديث لا يقنع بالعقل بل بالمشاعر.

فمشهد درامي مؤثر، أو موسيقى حزينة، أو قصة تُبكي — كفيلة بتبديل قناعةٍ راسخة، لا لأنّها منطقية، بل لأنها لامست العاطفة.

ولهذا يُخاطب الإعلام القلب أولًا، ويُغيب التفكير حتى يستسلم المتلقي لِما يحبّ لا لما يصحّ.

3. التأطير

التأطير هو فنّ عرض الحدث لا الحدث نفسه.

فقد تُصوَّر الواقعة الواحدة في صورتين متناقضتين:

بطولة في جهة، وهمجية في جهة أخرى، بحسب زاوية العرض واللغة المستخدمة.

وهكذا يتحكم “الإطار” في القناعة أكثر من الحقيقة ذاتها.

4. العزلة

حين يُعزل الإنسان عن القرآن والعترة ومجالس العلماء، يفقد مناعته الفكرية.

العزلة الفكرية أخطر من الجسدية؛ لأنها تفصله عن منابعه الأصيلة، وتجعل فكره سهل الاختطاف من قبل أي موجة أو مؤثر.

حين يغيب النور، تتشابه الأصوات في الظلام.

وعي القرآن مقابل وعي المنصّة

المنصّات الرقمية تغذي الضجيج اللحظي والانفعال العابر،

أما القرآن الكريم وكلام أهل البيت (عليهم السلام) فيغذي البصيرة والهدوء الداخلي.

قال تعالى:

﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾

في تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي:

أفضل شاهد على الإنسان في محكمة القيامة هو نفسه، لأنها تعرف حقيقتها أكثر من غيرها، وإنّ الله تعالى أقام عليها الحجّة بالدلائل الباطنية والظاهرية.

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام):

«ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنًا ويُسرّ سيئًا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك؟ والله سبحانه يقول: بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية». (1)

فالبصيرة وعي داخلي لا يخدع، تشهد به النفس على نفسها وإن تذرعت بالأعذار.

وقال تعالى أيضًا:

﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾

فالقرآن يخاطب العقول الحرة التي تبحث عن المعنى، وليس عن الأهواء التي تتبع الصخب.

الوعي القرآني هو البوصلة التي توازن بين العقل والعاطفة، وبين الهدوء والضجيج، وبين الحقيقة والزيف.

ملامح الشاب الواعي قرآنيًا

الشاب الواعي ليس من يملك كل الإجابات، بل من يملك الأسئلة الصحيحة.

يسأل دائمًا: من أين جاءت الفكرة؟ ما دليلها؟ من المستفيد منها؟

يُزن القول بالحجة لا بعدد الإعجابات، ولا يجعل “الترند” مقياسًا للحق، بل ينتمي للحق لا للمؤثر.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

(انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال). (2)

«إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله». (3)

مسؤولية الشاب الجامعي

الجامعة ليست مكانًا للدراسة فحسب، بل مصنع الوعي وصناعة المستقبل.

فأنت من يصنع فكر المجتمع القادم، فكن صاحب بصمة فكرية لا نسخة مكرّرة.

واجعل الإعلام وسيلة معرفة لا مرجع إيمان.

قال تعالى:

﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّـهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)﴾ الزمر.

وفي هذا توجيه رفيع: الاتباع الحق لا يكون إلا بعد تمييز وتفكر وبصيرة.

وروي عن النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين قوله:

(كأنّي دُعِيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلُفوني فيهما) (4)

حرية الفكر أم فوضى الفكر؟

الحرية الفكرية ليست أن نفكر دون ضابط، بل أن نُعمل عقولنا في ضوء القيم والحقائق.

أما الفوضى الفكرية، فهي انطلاق دون أصول، وجرأة دون معرفة، وادعاء حرية ينتهي بالضياع.

حرية الفكر: حقٌّ مشروط بالقيم، مسترشد بالحق.

الفوضى الفكرية: تفكير دون ضابط، وهدم دون بدائل، وجرأة على المقدسات.

قال الإمام علي (عليه السلام)

(ما عُبد الله بشيء أفضل من العقل، وما تمّ عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتّى… وهو تمام الأمر». (5)

الوجه حرية الفكر الفوضى الفكرية

المنطلق العقل الملتزم بالقيم الهوى المتحلل من القيم.

الهدف الوصول إلى الحق وتحرير العقل هدم الثوابت وتمييع الهوية

الضابطة الشرع والعقل والأخلاق المزاج والرغبة

الأثر نهضة حضارية، فوضى معرفية، وانحطاط قيمي

حرية الفكر هي شمعة تنير الطريق

أما الفوضى الفكرية فهي نار في هشيم، تبدأ بالحرية وتنتهي باحتراق الهوية.

بين الانفتاح والهوية

الانفتاح لا يعني الذوبان، والهوية لا تعني الانغلاق.

التوازن بينهما يتحقق حين ندرك أن الهوية ليست جدارًا يَحجبنا، بل جذرًا نغتذي منه ونحن ننفتح على العالم.

الانفتاح الواعي هو أن نأخذ من العالم ما يُغني قيمنا لا ما يُبدّدها، وأن نحاور المختلف من موقع الثقة وليس الذوبان.

الهوية تمنحنا الاتجاه، والانفتاح يمنحنا الأفق؛ فإذا حافظنا على الاتجاه ونحن نسير نحو الأفق، كنا أمة تعرف من هي، وتعرف إلى أين تمضي.

هل القرآن مرجع للفكر المعاصر؟

بلى وربّ الكعبة، بل هو المرجع الأسبق، والمصدر الأصدق، والنور الأوضح، والهدي الأكمل.

ما من قضية إنسانية، ولا أزمة فكرية، إلا وفي القرآن أصلها أو ما يدل عليها ويهدي نحو حلّها.

قال تعالى:

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]

عن الإمام الباقر (عليه السلام)

(إنّ الله أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئًا تحتاج إليه هذه الأمة». (6)

فهذه الآية وحدها كافية في الرد على من زعم أن القرآن لا يفي بحاجات الفكر المعاصر، إذ إن عبارة «كل شيء» تشمل العقيدة، والأخلاق، والمجتمع، والسياسة، والاقتصاد، وكل ما يمسّ حياة الإنسان في كل زمان ومكان.

 

*خاتمة*

وهب الله الإنسان نعمة العقل، فعليه أن يُحسن استثمارها في كل مجال من مجالات الحياة.

أما الاستثمار الأعظم، فهو توجيه هذا العقل نحو طريق الآخرة عبر القرآن والعترة والعلماء الأمناء على الدين والدنيا.

قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾

﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا﴾

الفكر الذي لا تصنعه أنت… سيصنعك هو.

فكن أنت الصانع، وليس المفعول به.

 

 

 

*المصادر والمراجع*

1.         مجمع البيان، ج10، ص396

2.         غرر الحكم ودرر الكلم بشرح الخوانساري، ج6، ص266، ح10189

3.         التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص190

4.         الشيخ الصدوق، حديث الثقلين، حديث رقم 40

5.         الكافي الشريف، ج1، ص39

6.         تفسير النور – كنز الدقائق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى