
د. حجي الزويد
«وفي أنفسكم أفلا تبصرون» [الذاريات: 21].
حين يدعونا القرآن الكريم إلى النظر في أنفسنا، لا يدعونا إلى تأمل الشكل أو الجسد فحسب، بل إلى التفكر في الآيات التي تسكننا، في حكمة الخلق وتكامل النظام الإلهي الذي يحكم كل خلية ونَفَس ونبضة.
ومن بين تلك الآيات الباهرة، تقف الرضاعة الطبيعية شاهدًا على عظمة الخالق في ربط الأمومة بالرحمة، والغذاء بالمحبة، والحياة بالعطاء.
إن حليب الأم ليس مجرد غذاء، بل لغة فطرية بين جسدين وروحين؛ يحمل الغذاء والمناعة والعاطفة في آنٍ واحد.
ففي لحظة الرضاعة، تتحقق معادلة إنسانية دقيقة: حياة تُمنح من جسدٍ إلى جسد، في توازن بديع لا يمكن للعلم أن يصنع نظيره.
عندما تريد شركات الحليب الصناعي إقناع طبيب ما بأن حليبها ممتاز، تذكر أن حليبها يحتوي تلك المادة المعينة في منتجاتها، وتلك المادة موجودة في حليب الأم، وليست موجودة في أصناف الشركات الأخرى، فأصبح حليب الأم هو المقياس للتكامل.
حتى أفضل أنواع الحليب الصناعي اليوم تحاول تقليد جزء بسيط جدًا من تركيب حليب الأم، و سأضع شاهدا واحدا فقط على ذلك، وهو عدد السكريات قليلة التعدد HMO:
حليب الأم يحتوي على أكثر من 250 نوعًا مختلفًا من السكريات قليلة التعدد HMOs، أي أكثر من 250 بنية كيميائية مختلفة من هذه السكريات المعقدة موجودة فقط في حليب الإنسان بينما الحليب الصناعي — حتى في أحدث صِيَغه — يحتوي عادةً على نوعٍ إلى خمسة أنواع فقط.
ما الوظائف الحيوية للسكريات قليلة التعدد في حليب الأم:
1. HMOs = السكريات قليلة التعدد في حليب الأم، وهي ثالث أكبر مكوّن بعد اللاكتوز والدهون.
2. تختلف أنواعها وكمياتها من أم لأخرى حسب الوراثة (جين FUT2 وFUT3)، والنظام الغذائي، ومرحلة الرضاعة.
3. لا تُهضم في أمعاء الطفل، بل تعمل كـ غذاء انتقائي للبكتيريا النافعة (مثل Bifidobacteria).
4. لها أدوار قوية في:
• تقوية المناعة المعوية
• الوقاية من العدوى البكتيرية والفيروسية
•دعم نمو الدماغ والجهاز العصبي
• تنظيم استجابة المناعة الالتهابية
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن حليب الأم — الذي يُنتج بتوجيهٍ من إشارات هرمونية دقيقة تبدأ من دماغ الأم — يحتوي على آلاف المركبات الحيوية التي لا توجد في أي غذاء صناعي، منها الأجسام المناعية، والخلايا الحية، والهرمونات المنظمة للنمو، والعوامل المضادة للالتهابات.
وما يزيد المشهد دهشة أن كل رضعة تختلف عن الأخرى، تبعًا لاحتياجات الطفل ولتوقيت الرضاعة، بل حتى لعمره وحالته النفسية والجسدية.
كأن الجسد الأمومي يتلقى “وحيًا بيولوجيًا” يدرك به ما يحتاجه صغيره دون تحليلٍ أو وصفة.
أليس هذا من أعجب شواهد قوله تعالى:
«وفي أنفسكم أفلا تبصرون» [الذاريات: 21]؟
إن التأمل في الرضاعة الطبيعية يقودنا إلى إدراكٍ أعمق لمعنى التكافل الإنساني الذي جعله الله فطرة في الكائنات؛ فالأم حين ترضع، لا تقدم الحليب فقط، بل تنقل لابنها الأمن والسكينة والارتباط الأول بالحياة.
إنها تمنحه معرفة العالم عبر الدفء والرائحة والنظر واللمس، لتتشكل أول لبنات شخصيته وثقته بذاته وبالآخرين.
كيف يتكيّف حليب الأم مع الزمن والظروف — وكأنه “كائن حي ذكي” يعرف ما يحتاجه الطفل بدقة مذهلة.
أولًا: كيف يختلف بداية الحليب عن نهايته (Foremilk vs Hindmilk)
عند بداية الرضعة، يكون الحليب الذي يخرج أولًا — ويسمى حليب البداية (Foremilk) — خفيف القوام، لونه مائل إلى الشفافية، ويحتوي على نسبة عالية من الماء واللاكتوز (السكر) وبعض البروتينات.
هذا النوع من الحليب:
• يروي عطش الطفل،
• ويساعده على تنشيط الهضم وتهيئة المعدة للرضعة.
أما في نهاية الرضعة، يبدأ خروج حليب النهاية (Hindmilk) وهو أكثر كثافة ودسامة، لونه أبيض كريمي، يحتوي على نسبة عالية من الدهون والطاقة.
هذا الجزء:
• يمنح الطفل الشبع والطاقة،
• ويساعد على نمو الدماغ وزيادة الوزن.
ويستفاد من ذلك، أنه يُنصح دائمًا بعدم تبديل الثدي بسرعة، بل ترك الطفل يفرغ الثدي الواحد جيدًا ليحصل على الحليب“الكامل” — البداية والنهاية معًا.
ثانيًا: كيف يختلف حليب الليل عن حليب النهار:
حليب الأم يتأقلم مع الساعة البيولوجية للأم والرضيع.
• في النهار: تكون نسب اللاكتوز (السكر) والطاقة أعلى، لتزويد الطفل بالنشاط واليقظة.
• في الليل: يزداد تركيز الميلاتونين (هرمون النوم) والتربتوفان (مادة مهدئة) والدهون، مما يساعد الطفل على النوم العميق والنمو العصبي.
كأن جسد الأم يقرأ الساعة ويبرمج الحليب ليناسب إيقاع الطفل الحيوي بين الصباح والمساء.
ثالثًا: كيف يختلف تركيب الحليب حسب عمر الطفل:
يتبدّل حليب الأم مرحليًا مع نمو الرضيع:
1. اللبأ (Colostrum) – في الأيام الأولى بعد الولادة:
سائل ذهبي غني بالأجسام المناعية والبروتينات، قليل الدهون، يهيّئ جهاز الهضم والمناعة.
هو “اللقاح الأول” الذي يحمي الطفل من العدوى.
2. الحليب الانتقالي (Transitional Milk) – من اليوم 5 إلى الأسبوع الثالث:
يبدأ الحليب بالتحوّل إلى اللون الأبيض، تزداد الدهون والسكر تدريجيًا مع ثبات المناعة.
3. الحليب الناضج (Mature Milk) – بعد الأسبوع الثالث:
يصبح أكثر توازنًا في البروتين والدهون والكربوهيدرات، ويتغير نسبها حسب عمر الطفل:
• في الشهور الأولى: تزداد الدهون والطاقة.
• مع تقدم العمر: تقل السعرات نسبيًا، لأن الطفل يبدأ تناول الأغذية الصلبة.
الخلاصة الذهبية:
حليب الأم ليس تركيبة ثابتة، بل نظام حيوي متكيّف:
• يتبدّل خلال الرضعة الواحدة (من ماءٍ إلى طاقة)،
• ويتغير بين الليل والنهار (من النشاط إلى الهدوء)،
• ويتطور مع مراحل النمو (من المناعة إلى النمو العقلي والجسدي).
كل قطرة فيه تُثبت أن الرضاعة الطبيعية ليست مجرد تغذية، بل معجزة بيولوجية دقيقة تُدار بحكمة الخالق:
«وفي أنفسكم أفلا تبصرون»
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾
هي ليست مجرد توجيهٍ فقهي أو أمرٍ بيولوجي، بل منهج حياة يجمع بين الرحمة الإلهية والعلم الرباني في بناء الإنسان منذ لحظة ميلاده.
كلمة “يُرضعن” جاءت بالفعل المضارع، دلالةً على الاستمرار والتجدد، وكأنّ الرضاعة ليست حدثًا مؤقتًا، بل علاقةً دائمة النبض بين الأم وطفلها.
أما قوله “حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ” فهو تأكيد على الكمال الزمني، لا في الحساب فحسب، بل في تمام التكوين الجسدي والعاطفي والمناعي للطفل. إن حكمة زمن الحولين. تدعمها الدراسات و الأبحاث العلمية التي أثبتت أن المناعة، والدماغ، والجهاز الهضمي يكتمل نضجها تقريبًا بعد عامين — تمامًا كما حدّد القرآن “حولين كاملين”
واليوم، حين تعود المجتمعات العلمية لتؤكد أن الرضاعة الطبيعية هي الأصل وهي الكمال، فإنها تعيد اكتشاف ما قاله الوحي قبل قرون: إن في الإنسان ما يغنيه عن الصنع البشري، إن هو أحسن التأمل في آيات خالقه.
إن الرضاعة الطبيعية ليست فقط غذاءً للطفل،بل رسالة ربانية تقول للأم:
إن في صدركِ حياةً لطفلك، وفي عنايتكِ به عبادةً، وفي لبنكِ آيةً من آيات الله في الخلق والرعاية تعجز عن محاكاته أي منتج صناعي.
فلتكن الرضاعة الطبيعية شاهدة فينا على الإعجاز الإلهي الذي يسكن تفاصيل الحياة، وشاهدة على أن في صدور الأمهات رحمةً تُترجمها الطبيعة إلى حليب، وفي هذا الحليب نورُ بقاءٍ يربط الأرض بالسماء.