أقلام

المنطقة الرمادية

السيد فاضل آل درويش

نسمع الكثير من الكلمات والقناعات والأفكار والمواقف والقرارات في حركة يومية لا تغادر سماء علاقاتنا الاجتماعية، وهذا يشمل مختلف الجوانب والقضايا الثقافية والمعرفية بما يعبّر عن وجهة النظر الخاصة للأفراد ومستخلَص آرائهم، ولكن الأمر يتعلّق بمؤدّى ومكانة وقيمة تلك التفوّهات في الساحة العملية وعلى أرض الواقع، فمجرد جمالية الكلمة لا يعني أن لها قيمة حقيقية ما لم ترتبط بمساحة عملية وتحدث أثرًا ملموسًا، فكثير من الكلمات لا تمتلك رصيدًا ولا قيمة – مع ما تمتلكه من هالة – بسبب أنها مجرد فقاعات تتصاعد في الهواء وتتلاشى، وأخرى تصدر من شخص لا يعرف قدراته ولا إمكاناته فيصدر منه كلمات تلامس السقوف العالية والآمال المتطاولة ولكنها بعيدة المنال في التحقق والبلورة العملية، و أخرى تصدر من انتهازي يعرف من أين تؤكل الكتف – كما يقال – فيجعل من الكلام المعسول وسيلة للوصول إلى غاياته كوسيلة ملتوية، وأمام تعدد هذه الاتجاهات التي تظهر وجود كلمات لا وجود حقيقي لها على أرض الواقع بل هي سرابية، علينا الالتفات إلى الأرضية العملية التي تعطي للكلمة واقعيتها ومكانتها بعيدًا عن الأوهام والآمال الكاذبة، إذ أن المواقف العملية هي الكاشف الفعلي لمدى صدق تلك الكلمة وثباتها، فشتان ما بين النيات والأقوال ومدى مصداقيتها عند التطبيق.

وهذا لا يعني – بالطبع – الدخول في عالم اتهام النيات وتحويلها إلى ظنون سيئة واتهامات جزافية تخلق واقعًا اجتماعيًّا تسوده التوترات والكراهيات، بل المطلوب هو تدقيق في ما نسمعه من كلمات ومواقف ووعود وانتظار تبيان مصداقيتها إذا تحولت إلى مواقف عملية، إذ قد يكون المرء صادقا في نيته ولا يحمل دواخل خبيثة أو مصالح ضيقة يلتف بها ويتلوّن، وإنما الواقع العملي يُمتحن فيه الفرد ويظهر مدى جديته وطريقة تفكيره وهمته في ميدان العمل، فوحدها التجربة العملية هي التي تمنح الكلام الركيزة التي تجعله ثابتًا ومؤثرًا وواقعيًّا، والوجود الحقيقي للفرد لا يتجلى في ما يقوله بل في ما يفعله حين توضع أمامه الاحتمالات المتعددة. ومن هنا يتضح أن الكلام — مهما كان متزنًا أو منمقًا — يبقى احتمالًا أخلاقيًّا ومحاولة تستحق المتابعة والتأمل حتى تتبلور على أرض الواقع، فلا يتحول الكلام إلى قيمة واقعية إلا بالفعل فالفعل هو الذي يمنح الكلام القيمة الوجودية.

المواقف العملية هي المحك الذي يحاكي الواقع والاختبار الجدي، فحين يتعرض الإنسان لاختبار قيمي أو أخلاقي يتطلب الصدق أو المساعدة أو العطاء تنكشف حينئذ المسافة بين ما كان يقوله وما هو قادر على فعله، فقد يتحدث أحدهم طويلا عن الصدق ولكن حين يواجه موقفًا أو مصلحة شخصية يظهر مدى التزامه الحقيقي من عدمه، وهو ما يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن المواقف هي المصفاة التي تمرّ عبرها الأقوال فلا يبقى منها إلا الصادق المتجذر في الوجدان.

التناقض بين القول والفعل يضعف الثقة بين أفراد المجتمع ويؤدي إلى إضعاف وتآكل المصداقية و يزرع الشك في النوايا، وهذا ما يعكس أهمية أن تكون المواقف مرآة صادقة للكلام لأن المجتمع لا يُبنى على الأقوال وحدها بل على تطابقها مع الأفعال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى