
د. محمد المحروس
في كل زمنٍ يظنّ الإنسان أنه بلغ اليقين، يعود السؤال ليوقظه من سباته: هل ما نعرفه هو الحقيقة.. أم صورتها في عقولنا؟ منذ أن رفع نيوتن عينيه نحو السماء، وغاص آينشتاين في الزمن، ظلّ العقل البشري يطارد ذاته بين التجربة والتأمل وبين المعادلة والمعنى. ومن هذا الحوار الأبدي وُلدت فلسفة العلم. —-— كان العلمُ والفلسفةُ متلاحمَين. يتأملان الوجود ويسألان عن المعنى ويفسّران الظواهر. ومع مطلع القرن الثامن عشر انفصل العلم عمليًا عن الفلسفة: ملاحظةٌ دقيقة وتجربةٌ محكمة ونتائجٌ مُعمَّمة. وفي الخلفية يقف غاليليو وقد علَّم العين أن تقيس ما تراه، ويأتي نيوتن ليشدّ على يد التجربة والقانون. بدا وكأن العقل يُحسنُ صُنعًا إذ يفصلُ التأملَ عن الإجراء، فنشأت فجوة: أداةٌ بلا غاية تُحسن القياس وتُضيع السؤال، وسؤالٌ بلا أداة يسمو بالمعنى ولا يمسك بالعالَم. وتبيَّن أن الانفصال لا يكتمل، فانبثق معنى: فلسفة العلم — تفكيرٌ في كينونة العلم، في منطقه وحدوده وشروطه، في كيف نعرف ولماذا نعرف، وماذا يعني أن ندّعي المعرفة. ومع تشكّل صورة “العالِم” الحديثة، رسّخ فرنسيس بيكون إيمانه بالطريق التجريبي ووعود الاستقراء: ملاحظة ففرضية فتحقّق فتعميم؛ مقابلَ استنباطٍ يمضي من المقدمات إلى النتائج. وغاص جون ستيوارت مل عميقًا في صوغ قواعد الاستقراء، بينما نبّه وليم هيول إلى أن فهم العلم يتطلب وعيٍ بمفاهيمه ونماذجه. ومع ذلك ظلّ همسٌ خافتٌ يقول: الملاحظةُ ليست حياديّة؛ فالنظريةُ تسبقُ الرؤيةَ وتوجّهُها. ثم أطلّ القرن العشرون كوميضٍ يوسّع الأفق ويضيّق حدود اليقين: آينشتاين يحرّر الزمان والمكان في النسبية، وبور وهايزنبرغ ورفاقهما يفتحون باب الميكانيكا الكمّية، حيث الاحتمال يقف نِدًّا للقطعية، ويصبح القياس جزءًا من الحكاية. هنا يتقدّم صوت كارل بوبر: ليست قوة النظرية في كثرة ما يبرّرها، بل في قابليتها للتكذيب/مبدأ الدحض — تكفي بجعةٌ سوداء واحدة لتعيد كتابة ما حسبناه يقينًا: أن البجع كله أبيض. عند هذه العتبة غدا الخطأ طريقَ الحقيقة لا خصمَها. من هنا أضحت فلسفةُ العلم تمرينًا للعقل على الانتباه لما تقوله الأدلةُ وما تُخفيه النماذج. سيذكّرنا توماس كون لاحقًا بأن العلم لا يتقدّم بالتراكم فقط، بل يقفز حين تتبدّل النماذج الإرشادية وتتغيّر الأسئلة نفسها، وهو ما استخدمه في كتابه «بنية الثورات العلمية». هكذا لم تعد الفلسفة ظلًّا للمختبر، بل ضوءًا يكشف ملامحه الخفية، تُذَكِّرُ، أن كل نتيجةٍ بدايةُ سؤالٍ جديدٍ. وحين دخلنا القرن الحادي والعشرين، امتزجت الرياضيات التطبيقية والبيانات الضخمة والخوارزميات الذكية بنسيج حياتنا اليومية. بدا السؤال القديم بثوبٍ جديد: إذا أصبحت الآلة تتنبّأ، فهل ما زال الإنسان هو من يفكّر؟ وإذا صار الحساب أسرع من الحدس، فأين تقف البصيرة؟ هنا تعود الفلسفة لتهمس بما تعلّمناه — من غاليليو إلى آينشتاين وبوبر: إن المعرفة التي لا تسأل عن غاياتها قد تضلّ الطريق، وإن الدقة بلا معنى ليست إلا طريقةً جديدةً للتيه. فالعلم الذي لا يتأمل يكرّر ذاته، والفلسفة التي لا تلامس الواقع تبقى طيفًا بلا أثر. وهكذا تبقى فلسفة العلم جسر خفي بين العالَم والعقل، بين التجربة والخيال، بين «كيف» و«لماذا»؛ لتذكّرنا بأن الحقيقة ليست حجرًا نضعه في مكانه الأخير، بل دربًا مفتوحًا من التساؤل والدهشة. إنها اليد التي تربت على كتفِ العالِم حين يغرق في معادلاته، وتهمس بما قاله الحكماء صراحةً أو ضِمنًا: وراء كل رقمٍ نية، ووراء كل تجربةٍ رؤية، ووراء كل اكتشافٍ إنسانٌ يسعى ليعرف من هو حقًّا.




