أقلام

حين يسقط القلم في يد المتسلط

سامي ال مرزوق

في كل مهنةٍ نبيلة يولد بين الحين والآخر من يسيء إلى معناها، ولكن حين تأتي الإساءة من داخل الإعلام تكون الفجيعة أكبر. فالإعلام ليس مجرد مهنة، بل ضميرٌ ناطق، وسفيرٌ للوعي، ورسالةٌ تُبنى على القيم قبل العناوين.

مؤلم أن ترى القلم الذي كُتب به الضمير الإنساني يتحول إلى أداةٍ للإهانة والانتقاص، وأن يتحول المنبر الذي خُلق لنصرة الحقيقة إلى ساحةٍ للتسلط والغرور. إن أخطر ما يمكن أن يصيب المؤسسات الإعلامية أن تسقط في أيدي من يجهلون أخلاق الكلمة، فيستخدمونها لا للتعبير عن المواقف بل لاستعراض النفوذ، فيتحول الصوت من وسيلةٍ للحوار إلى وسيلةٍ للإيذاء، ويضيع المعنى بين الصراخ والتهكم.

لقد صرنا نعيش زمنًا تتبدل فيه الموازين حتى يصبح الصواب خطأً والحق تهمةً والمطالبة بالإنصاف جُرأةً لا تُغتفر. زمنٌ يُصفق فيه للخطأ إن جاء من صاحب نفوذ، ويُهاجم فيه من ينطق بالحقيقة لأنه تجرأ على كسر الصمت. حين يسقط القلم في يد المتسلط يفقد الإعلام روحه، وتُصاب المهنة في ضميرها، فتصبح الكلمة التي وُلدت لتُنير طريق الناس وسيلةً لجرحهم، ويغدو المنصب الذي صُمم لخدمة المهنة منصةً للتعالي على الزملاء والتقليل من شأنهم.

والمؤلم أن يتجلى هذا الخلل في تفاصيل صغيرة لكنها فاضحة، كأن يُهمَل خبر أو مقال أُرسل للنشر دون مبرر، ثم حين يُسأل المسؤول عن السبب، يختار طريق السخرية بدل التوضيح، فيقابل السؤال المهني باستهزاءٍ جارح وكأنه خطيئة. تلك اللحظة التي يستهين فيها أحدهم بجهد زميله، أو يرد على طلبٍ مشروعٍ بسخريةٍ متعمدة، تكشف معدن التربية لا طبيعة الموقف. فالكلمة الساخرة لا تسيء فقط إلى من تُوجه له، بل تُعري قائلها أمام الجميع.

تكرار هذا النوع من التصرفات ،تجاهل، استهزاء، وعبارات جارحة، ليس مجرد خلل في أسلوب التواصل، بل دليل على ضمور الأخلاق وانعدام الحسّ المهني. فالمسؤول الذي يرفع صوته بدلًا من أن يقدر جهد زملائه، إنما يختار طريق الفوضى بدل النظام، وطريق الاستعلاء بدل الاحترام. والمؤسسة التي تسمح بتكرار هذا السلوك تفقد بريقها شيئًا فشيئًا، لأن هيبتها لا تُبنى بالمناصب بل بأخلاق من يشغلها.

إن الإنسان الذي تربى على الأدب لا يمكن أن يجعل من الاستهزاء وسيلةً للرد، ولا من الصراخ لغةً للحوار. الألفاظ النابية التي تتكرر دون وعي ليست إلا انعكاسًا لبيئةٍ مهزوزة وتربيةٍ ناقصة، فالخلق الطيب لا يحتاج إلى تعليم، والتربية السليمة تُختبر في المواقف الصغيرة قبل الكبيرة. من نشأ على الاحترام لا يهمش الآخرين، ومن تربى على التهذيب لا يرى في الإهانة وسيلةً لإثبات الوجود. فالمناصب لا تُهذب الأخلاق، بل تكشف حقيقتها.

وما يبعث على الأسى أن يتحول مكان العمل الذي يُفترض أن يكون بيئة تواصلٍ مهني راقٍ إلى ساحة صراعٍ لفظي، تُرفع فيها الأصوات ويُستهزأ فيها بالجهود، وكأن الهدف ليس تقديم محتوى نافع بل تسجيل مواقف شخصية. فحين تُستبدل الكلمة الطيبة بالتهكم، تموت روح الفريق، وتُصاب المؤسسة بالجمود، لأن الخوف يقتل الإبداع، والاستهزاء يُطفئ الحماسة.

البيئة الإعلامية السليمة لا تُبنى على المجاملات، بل على التقدير المتبادل. من واجب أية إدارة أن تحمي موظفيها ومشاركيها من التجاوز اللفظي، وأن تضع للسان حدودًا كما تضع للقلم مسؤولية. فالمؤسسات التي تُدار بالاحترام تُثمر ثقة، وتلك التي تُدار بالغرور تُنتج نفورًا وفوضى.

الإعلامي الحقيقي هو الذي يعرف أن صوته لا يُقاس بارتفاعه، بل باتزانه، وأن القوة لا تكون في الاستهزاء، بل في الرقي. الكلمة التي تُقال بأدب تبقى، أما تلك التي تُقال بتعالي فتسقط قبل أن تُسمع. وأجمل ما في الإنسان أن يملك سلطةً ولا يسيء استخدامها، وأن يكون في موقع قوةٍ فيختار الرفق والتهذيب.

في النهاية، لا يُقاس الإعلام بعدد متابعيه أو حجم انتشاره، بل بمدى التزامه بأخلاقيات الكلمة. ومن يظن أن الصوت العالي يمنحه هيبة، يجهل أن الهيبة تُولد من الأدب وحده. فحين يسقط القلم في يد المتسلط، تسقط معه قيمة الرسالة، ويتحول المنبر من وسيلةٍ للتنوير إلى أداةٍ للظلم، فكيف يمكن لمؤسسةٍ إعلامية أن تُقنع جمهورها بأخلاق الكلمة، وهي تعجز عن احترامها داخل جدرانها، وكيف لمن يستهزئ بزملائه أن يطلب من الناس أن يحترموا ما يكتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى