الاستعداد النفسي والمعرفي للأم حول الرضاعة الطبيعية

د. حجي الزويد
الرضاعة الطبيعية ليست مجرد عمليةٍ بيولوجية تُشبِع حاجة الطفل إلى الغذاء، بل هي رحلة إنسانية عميقة تنبع من قناعة الأم وإيمانها الداخلي بأهميتها، وتمتد لتصبح تجربة فريدة تجمع بين الجسد والعاطفة، وبين الحليب والحنان.
تواصلت معي إحدى الأمهات، وهي قلقة بشأن ابنتها حديثة الولادة المنوَّمة في الحضانة، وأفادت بأنها منذ ولادة طفلتها تقوم بشفط الحليب وإرساله إلى المستشفى ليُقدَّم للطفلة. غير أنها هذه المرة، وبسبب ظرف خارج عن إرادتها، لم تتمكن من الحضور مبكرًا لإيصال الحليب المشفوط، وتخشى أن تُعطى ابنتها حليبًا صناعيًا.
وأمٌّ أخرى وضعت توأمًا، ولم تُعطِ طفليها أيَّة قطرةٍ من الحليب الصناعي لمدة عامين كاملين.
وأمٌّ ثالثة سافرت لأداء فريضة الحج، وخلال فترة سفرها لم يتناول طفلها أيّ حليبٍ صناعي، إذ كانت قد أعدّت مسبقًا حليبها المشفوط منذ شهر شوّال، وخزَّنته في المُجمِّد (الفريزر) ليُقدَّم لطفلها طوال مدة رحلتها إلى الحج.
هذه النماذج الثلاثة تُجسّد بُعدًا عميقًا من الوعي والإدراك لدى الأمهات الثلاث، من حيث الاستعداد النفسي والمعرفي بأهمية حليب الأم، وإيمانهنّ بأنه الغذاء الأمثل لتغذية الطفل ونموّه السليم.
القناعة الداخلية هي الخطوة الأولى، والأساس الذي تُبنى عليه جميع مراحل النجاح في الرضاعة. فالأم التي تؤمن بقدرتها، وتُدرك أن جسدها مهيأ طبيعيًا لتغذية طفلها، تملك مفتاح النجاح. هذه القناعة تمنحها طاقة نفسية إيجابية تُعينها على تجاوز الصعوبات الأولى، مثل ألم الثدي، أو قلة النوم، أو الخوف من عدم كفاية الحليب.
حين تُرضع الأم طفلها عن اقتناع، فإنها لا تُقدّم له الغذاء فحسب، بل تبثّ فيه الأمان. فالإيمان الداخلي يُحوّل الرضاعة إلى لحظة تواصل روحي وجسدي، يشعر فيها الطفل بدفء صدر أمه، وبثقةٍ خفية تقول له: “أنت بخير، أنا هنا”. هذه الرسالة النفسية هي أول درسٍ في الثقة بالحياة يتلقاه الإنسان.
الاستعداد النفسي يبدأ من المعرفة الصحيحة، فكل معلومة علمية حول فوائد الرضاعة الطبيعية تُعزز من إيمان الأم بها. عندما تعلم أن حليبها يحتوي على أجسام مضادة تُحصّن طفلها من الأمراض، وأن الرضاعة تُقلل خطر السمنة والسكري والربو، واضطرابات الجهاز الهضمي، فإنها تُدرك أن ما تُقدّمه أعظم من أي دواء أو لقاح.
ولكن المعرفة لا تقتصر على الجانب الطبي فقط؛ بل تشمل أيضًا فهم طبيعة النفس البشرية. فالأم حين تدرك أن التوتر والقلق يُقلّلان من إفراز هرمون “الأوكسيتوسين” المسؤول عن تدفق الحليب، تُصبح أكثر حرصًا على خلق بيئة هادئة، مريحة، تُساعدها على الاسترخاء والثقة بنفسها.
القناعة تولد من الوعي، وليس من الضغط المجتمعي. كثير من الأمهات يشعرن بالذنب حين لا يتمكّنّ من الإرضاع الكامل، لأنهن تلقّين خطابًا مثاليًا يحمّلهن فوق طاقتهن. لذلك، يجب أن يكون الوعي بالرضاعة الطبيعية وعيًا رحيمًا واقعيًا، يُشجّع الأم ويُساندها دون أن يُدينها.
الاستعداد المعرفي يتضمن كذلك فهم المراحل المختلفة للرضاعة: كيف يتغير الحليب من “اللبأ” في الأيام الأولى إلى الحليب الناضج، وكيف تتبدّل تركيبته بين بداية الرضعة ونهايتها. هذا الفهم يجعل الأم أكثر ثقة، وأقل قلقًا تجاه ما يراه البعض “تغيرات غريبة”.
من المهم أيضًا أن تُدرك الأم أن الرضاعة الطبيعية ليست مسؤوليتها وحدها، بل هي مشروع أسري ومجتمعي. فدعم الزوج، وتفهّم العائلة، وتعاون مكان العمل، كلّها عناصر تُعينها على الاستمرار. القناعة تزدهر حين تجد الأم حولها من يُشجعها لا من يُشكك فيها.
وحين تواجه صعوبات – مثل تشققات الحلمة أو قلة الإدرار – فإن القناعة الداخلية تُلهمها طلب المساعدة بدل الاستسلام، وتدفعها إلى مراجعة الأخصائية أو استشارة طبيب الأطفال بثقة، بدل اللجوء إلى الحليب الصناعي واتخاذه حلًا للمشكلة.
وفي النهاية، يمكن القول إن الاستعداد النفسي والمعرفي هو اللبنة الأولى في بناء رحلة رضاعة ناجحة. فالأم الواعية، الهادئة، المؤمنة بدورها، تُحوّل الحليب إلى رسالة حبّ، والرضاعة إلى حوارٍ صامتٍ بين قلبين نابضين.
القناعة ليست مجرد فكرة في العقل، بل نبضٌ في القلب يقول: “ما أقدّمه لطفلي هو امتداد لحياتي فيه”.
وهكذا تصبح الرضاعة الطبيعية فعلًا من أفعال الإيمان — إيمان بالخالق، وبقدرة الجسد، وبعظمة الأمومة التي اختارها الله لتكون أول درس في الحب والعطاء.




