حين تُطلب رغباتنا… تفقد وهجها

منهال الجلواح
في لحظة ما، حين نُمعن في التمني، نكتشف أن الرغبات ليست كما تخيّلناها. نطلبها بشغف، نلهث خلفها، نُراكم حولها الأحلام والانتظارات، ثم حين تأتي — إن أتت — لا تحمل ذات البريق الذي أضاء خيالنا. كأنها فقدت شيئًا في الطريق، شيئًا من جوهرها، من سحرها الأول.
فالرغبة، بطبيعتها، كائنٌ هش. تعيش في الظلال، في التلميح، في الاحتمال. حين نُخرجها إلى الضوء، نُسميها، نُطالب بها، نُلحّ عليها، تبدأ بالتلاشي. لا لأنها لا تستحق، بل لأننا نُفرط في كشفها. نُعرّيها من غموضها، من تلك المسافة التي تمنحها جاذبيتها.
فكم من أمنية كانت أجمل حين كانت بعيدة؟ كم من حلمٍ خسرناه حين تحقق؟ ليس لأنه لم يكن جيدًا، بل لأننا بالغنا في انتظاره، في رسمه، في التعلق به. فحين نطلب الأشياء بشدة، نُحمّلها أكثر مما تحتمل. نُريد منها أن تُنقذنا، أن تُغيّرنا، أن تُعيد تشكيل العالم من حولنا. لكنها، في النهاية، مجرد شيء. لا أكثر.
الرغبات التي تُطلب علنًا، تُصبح مشروطة. تُصبح رهينة التوقيت، والرد، والقبول وحتى الإنكسار. أما تلك التي تُحفظ في القلب، التي تُروى بصمت، فتظل نقية، حُرّة، قادرة على أن تُفاجئنا حين تأتي، دون أن تُخيبنا.
ربما لهذا، تفقد الرغبات قيمتها حين نلحّ في طلبها. حين نطلبها بالأساس، فتجيء منقوصة، باهتة، وقد كانت أقصى أمانينا.
الرغبة حين تُعرّى: بين التوق والخذلان
الرغبة ليست مجرد أمنية، بل هي حالة وجودية. إنها ذلك الارتجاف الخفي في القلب حين نُفكر بشيء نريده، دون أن نُفصح عنه. هي الترقّب، التخيّل، التذوّق قبل التحقّق. لكن ما إن نُعلنها، ما إن نُطالب بها، تبدأ بالتحوّل. كأنها تُصاب بالوهن، كأنها تُصبح شيئًا آخر غير ما كانت عليه في خيالنا.
الرغبة، حين تُطلب، تُصبح مشروطة. تُصبح خاضعة للرد، للقبول، للرفض، للتوقيت، للظروف. لم تعد حُرّة. لم تعد طاهرة. لقد خرجت من عالمها الداخلي، من دفء التمنّي، إلى برودة الواقع. وهنا، يحدث الانكسار.
نحن لا نُحب الأشياء كما هي، بل كما نتخيّلها. نُحب الحُلم أكثر من الحقيقة، لأن الحُلم لا يُخيبنا. الحقيقة، مهما كانت جميلة، لا تُضاهي ذلك التوق الذي سبقها. ولهذا، حين نُلحّ في طلب الرغبة، نُحمّلها أكثر مما تحتمل. نُريد منها أن تُعيد تشكيلنا، أن تُكافئ صبرنا، أن تُبرّر انتظاراتنا. لكنها، في النهاية، لا تملك تلك القدرة.
بل إن بعض الرغبات، حين تتحقق، تُشعرنا بالفراغ. كأننا فقدنا شيئًا لا يُعوّض. ليس لأننا لم نحصل على ما نريد، بل لأننا فقدنا ذلك الشغف الذي كان يُرافقنا ونحن ننتظر. فقدنا تلك النار التي كانت تُضيء داخلنا.
الرغبة، إذًا، ليست في الشيء ذاته، بل في المسافة بيننا وبينه. في الغموض، في الاحتمال، في الترقّب. وحين نُطالب بها، نُقصّر تلك المسافة، نُطفئ ذلك الغموض، فنخسرها.




