رحلة المعرفة من الشك إلى اليقين

أحمد لطويل
اليقين والوعي: خاتمة الرحلة إلى الحقيقة الإلهية
تنويه:
هذه هي المقالة السادسة والأخيرة من سلسلتنا الفكرية الأسبوعية. بعد أن بدأنا بالغوص في متاهات القراءات المتعددة، وتناولنا التعددية الدينية والطريق الحق والنجاة، وأبعاد الرحمة والعدل الإلهي؛ نقف اليوم عند ختام الرحلة، الذي يوضح كيف يتحول إدراك الإنسان للحق والباطل إلى يقين عملي، ويصبح وعيه أداة لفعل الخير مع فهم أعمق لرحمة الله وعدله.
مقدمة:
كان يسير في طريق طويل، تتناوب عليه ظلال الشك وأنوار الفهم، تتقاذفه الأسئلة كما تتقاذف الأمواج زورقًا صغيرًا في بحر لا قرار له. غير أنّ كل موجة كانت تدفعه نحو شاطئ جديد، حتى إذا لاحت خيوط الفجر، اكتشف أن الطريق لم يكن خارجه، بل كان في داخله. هناك، في عمق القلب، التقت المعرفة بالإيمان، والبحث بالسكينة، وانتهت الرحلة التي بدأت بالسؤال إلى يقين يملأ الوجدان نورًا وطمأنينة.
تخيّل نفسك وقد أتممت الرحلة حتى هذه اللحظة. الطريق طويل محفوف بالأسئلة، وقد واجهت من المتاهات الفكرية والتحديات الروحية ما يكفي ليهزّ الإيمان واليقين. اليوم تصل إلى مرحلة تتجسد فيها المعرفة لا كنظرية جامدة، بل كأداة حية تمكنك من فهم العلاقة بين الإنسان وربه، بين إدراك الحق والفعل، وبين الخوف والرجاء.
في المقالة الخامسة، توقفنا عند سؤال أساسي: كيف يجتمع عدل الله مع رحمته؟ واليوم نغوص في الفصلين الأخيرين من الكتاب، لفهم كيف يصل الإنسان من معرفة سطحية بالحقائق إلى يقين متين، ثم إلى العمل الصالح المستمر.
اليقين: ثمرة المعرفة الصافية
الفصل التاسع من الكتاب يوضح أن المعرفة الحقيقية لا تكتمل بمجرد جمع المعلومات، بل عندما يعي الإنسان حدود قدراته، ويفهم مصادر الخطأ والجهل. هذا الوعي يولد الخوف الواعي والرجاء المستنير.
التأمل والتفكر هنا يحول المعرفة النظرية إلى يقين عملي. فالإنسان، حين يفهم العدل الإلهي والرحمة الإلهية، يصبح قادرًا على اتخاذ القرارات الأخلاقية الصحيحة، ويعيش بين خوف من الله ورجاء في رحمته، بعيدًا عن الغرور واليأس.
المعرفة في خدمة الفعل
الدين لا ينحصر في الإيمان النظري، بل يقوم على تلازم بين المعرفة والالتزام. فالمعرفة تُعرّف الإنسان بحدوده، والالتزام يضعه في مسار التكامل. بهذا الفهم، تصبح الأحكام الشرعية، سواء التكليفية أو الوضعية، ثمرة من ثمار المعرفة الإلهية، تتجلى في سلوك الإنسان.
مثال: الصلاة ليست مجرد تكليف جسدي، بل وعي بالعبودية.
الصيام ليس حرمانًا، بل تمرين على الحرية من الهوى.
الزكاة ليست مالًا يُدفع، بل معرفة تتجسد في العدالة الاجتماعية.
الأحكام بين الثبات والتغيّر
الفصل التاسع يؤكد أن التغيير في الدين ليس مساسًا بجوهره، بل انعكاس لحركة الحياة وتبدل الظروف. الدين يتكوّن من ثلاثة أقسام:
1. العقائد (كالتوحيد والعدل والمعاد): ثابتة لا تتبدل.
2. الأخلاق: المبادئ الكبرى (كالعدالة والتقوى والعفاف) ثابتة، لكن فروع المسائل الأخلاقية قد تختلف.
3. الأحكام الشرعية: يمكن أن تتغير جزئيًا وفق المصالح والمفاسد التي تتبدل مع تغير الموضوعات والزمان والمكان.
مثال على تبدل الموضوع: حرمة شرب عصير العنب إذا تحول إلى خمر، وحليته إذا صار خلًّا.
مثال على تبدل الزمان: حرمة لباس معين في زمن كانت له دلالة على التشبه بالكفار، وحليته لاحقًا مع زوال الدلالة.
فهم هذه الديناميكية هو وعي عميق بمرونة الشريعة وحيويتها، وكيف أن الأحكام الإلهية تبقى صالحة لكل زمان؛ لأنها تحمل روحًا تتكيّف دون أن تتبدّل.
من المعرفة إلى الحكمة
المعرفة الحقة كما يؤكد القرآن ليست مجرد علم بالحقائق، بل وعي بها في ضوء العمل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (البقرة: ٢٦٩).
الحكمة هي نقطة الالتقاء بين المعرفة والعقل العملي، لتكون كل أعمال الإنسان مدروسة، لا مأمورية فقط. الإيمان الحقيقي هو سلوك متجذر في الوعي.
سردية الرحلة من الشك إلى اليقين
تخيّل نفسك عند نبع ماء صافي، وقد عطشت روحك طويلاً للمعرفة. كل ما تعلمته أصبح مرجعًا لتقييم أفعالك، وضبط ميزان الحياة والآخرة. قلبك لم يعد مضطربًا بالشك، بل مستقرًا بين خوف من الله ورجاء في رحمته. المعرفة وسيلة لفهم الحق والباطل، وتحويل الإدراك إلى عمل يرضي الله، ويقيم العدالة، ويحقق الرحمة.
الخلاصة:
اليقين اليوم ليس شعورًا داخليًا فحسب، بل حالة شاملة من الانسجام بين الفهم والوعي والفعل. الرحلة من الشك إلى اليقين انتهت عند إدراك أن الفعل الصالح المكلل بالنية الصافية، هو الذي يحقق الغاية من كل معرفة.
كما قال الإمام الصادق (عليه السلام): “لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفًا راجيًا، ولا يكون خائفًا راجيًا حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو”.
وهذه الحكمة تلخص كل ما تعلمناه: الخوف والرجاء والمعرفة والعمل، يجب أن يجتمعوا لتصبح رحلة الإنسان متكاملة.
اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا وبصيرة. اجعل معرفتنا نورًا يهدينا إلى عملك وعدلك، رحمة فينا، وحكمتك سراجًا في طريقنا، حتى نلقاك وقد اكتمل فينا نور اليقين، بمحمد وآله الطاهرين.
المصادر والهوامش:
1. القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية ٢٦٩.
2. محمد حسين زاده، مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية، ترجمة السيد حيدر الحسيني، ج٢، دار الهدى، الفصلان التاسع والعاشر.
3. الكليني، الكافي، ج٢، باب الخوف والرجاء، حديث الإمام الصادق (عليه السلام).




