أقلام

زينب الكبرى… ابنة النبوّة التي حفظت السيرة بالكلمة والدمعة

زاهر العبد الله

ليست السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) امرأةً عابرة في ذاكرة التاريخ، بل هي مشروعٌ إلهيٌّ متكاملٌ أُعدّ بعنايةٍ ربّانيةٍ لتكون الشاهدة الحيّة على ملحمة كربلاء، وحافظة الوعي الرسالي بعد رحيل الحسين (عليه السلام).

لقد اجتمعت فيها أنوارُ أربعةِ معصومين، فكانت نسيجًا فريدًا من الكمال الإنساني والإلهام الروحي: من جدّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورثت النور والهداية، ومن أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ورثت العلم والفصاحة، ومن أمّها الزهراء (عليها السلام) ورثت الطهر والحياء، ومن أخويها الحسن والحسين (عليهما السلام) ورثت الصبر والجهاد.

من مهد النبوّة إلى مدرسة البطولة

منذ ولادتها، حملها جدّها النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) على صدره، وبكى وهو يرى بعين النبوّة ما سيجري عليها من مصاب، وقال لأبيها وأمّها:

«من بكى على مصاب هذه البنت، كان كمن بكى على مصاب الحسين».

نشأت زينب في حضن النبوّة وتشرّبت من نور الوحي والإيمان، وتكوّنت شخصيتها بين محراب الزهراء ومدرسة عليٍّ وسلوك الحسن والحسين، فكانت بحقّ الصورة الأكمل للمرأة الرسالية في الفكر والسلوك.

عليٌّ ربّاها على الفصاحة والحكمة

تولّى أمير المؤمنين (عليه السلام) بناء عقلها وفكرها، فكانت تلازمه في مجالس العلم، وتنهل من بحر بيانه حتى قيل عنها:

«كانت تتكلم بلسان أبيها».

وقد بلغت من الفصاحة والبيان ما جعل كلماتها في الكوفة والشام تُدوَّن في التاريخ كخُطبٍ خالدة توازي خطب أمير المؤمنين في البلاغة والقوة والإحساس الرسالي.

الزهراء قدوتها في العبادة والطهر

أمّها الزهراء (عليها السلام) غرست في قلبها روح الطهر والعفاف والعبادة، فكانت زينب الزاهدة العابدة التي لا تترك نافلة الليل حتى في طريق الأسر، تجمع بين الوقار والرحمة، وبين الإيمان الراسخ والحياء المصون.

من الإمام الحسن (ع) تعلّمت الحِلم والرزانة، أما أخوها الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) فكان لها معلّم الحِلم والرحمة. تعلمت منه سعة الصدر، ورزانة الموقف، وحكمة التعامل مع الأزمات. كانت تراه الأب الثاني بعد عليٍّ والزهراء، ولذلك كانت خدمتها له حبًّا وطاعةً، ووقوفها عند وفاته لوحةً من الوفاء النادر في التاريخ.

ومن الإمام الحسين (ع) ورثت روح الجهاد والصبر، فالعلاقة بين زينب والحسين (عليهما السلام) كانت أسمى من الأخوّة، إنها علاقة الرسالة بالإمام، واليقين بالمشروع الإلهي.

كانت ترى في الحسين إمامها وقدوتها، وتشاركه همّ الإصلاح وإحياء الدين.

وحين خرج إلى كربلاء، خرجت معه لا لأنها أختٌ تبكي، بل لأنها مؤمنةٌ تبذل وتدافع.

وعندما استُشهد الحسين، وقفت زينب لتحمل راية الثورة وتحوّل الدمعة إلى كلمة، والمأساة إلى وعي، فخاطبت الناس ببيانٍ أذهل العالم، وصار منبرها امتدادًا لملحمة كربلاء.

شهاداتٌ من المعصومين والخصوم

بلغت السيدة زينب (عليها السلام) من الكمال ما جعل الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول لها بعد خطبتها في الكوفة:

(عمّة، أنتِ بحمد الله عالمةٌ غير معلّمة، فهِمةٌ غير مفهّمة).

(العوالم، السيدة الزهراء (س)، ج٢، ص٩٥٥.).

حتى خصومها أُنبهروا بعظمتها، فقد قال حذيم بن شريك في وصفها بمجلس يزيد:

(ما رأيتُ خَفرةً أنطق منها، كأنها تُفرغ عن لسان أمير المؤمنين!)

زينب.

تفرّدت زينب بالعظمة لأنها نُسجت من خيوط النبوّة، وصُقلت في مدرسة المعصومين، وامتحن الله قلبها للإيمان فوجدها أهلاً لحمل سرّ الرسالة بعد كربلاء.

لم تكن ابنة بيتٍ طاهر فحسب، بل كانت المدرسة التي حفظت الدين بدمعها وكلمتها وشجاعتها وصبرها، وظلّ صدى صوتها النوراني يوقظ ضمير الأمة عبر القرون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى