الحوار بين الإثارة العقلية والعاطفية

السيد فاضل آل درويش
كيف يمكن للمتكلم أن يستند إلى منهج فكري وكلامي يساعده على تقديم الفكرة أو المفهوم أو القضية التي يحاول أن يقنع بها الطرف الآخر؟
يُعدّ التخاطب والحوار أداة من أدوات التأثير والتغيير في المجتمعات، إذ هو الوسيلة التي يعبّر بها الإنسان عن فكره وينقل من خلالها معتقداته ومواقفه إلى الآخرين، وإذا ما بحثنا عن أفضل الأساليب التي يمكننا التحدّث بها وتعطي نتيجة مؤثرة وبالغة في الطرف الآخر، فهو القدرة على إقناع العقول وتحريك القلوب في آن واحد دون إسفاف، ويُقدّم القرآن الكريم أنموذجًا راقيًا في فنّ التخاطب إذ يجمع بين العقل والعاطفة في تناغم بديع إذ يخاطب الإنسان في عقله ووجدانه، فالمنهج القرآني يجعل من التفكير والتدبّر سبيلًا إلى الإيمان الراسخ، فالقرآن لا يفرض معتقداته فرضًا ولا يقوم باستدرار العواطف، بل يخاطب العقل الإنساني ويدعوه إلى التأمل والتفكير، قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾{البقرة الآية ١١١}.
إنّ هذا النداء القرآني يضع قاعدة راسخة في منهج الحوار وهي أن الحجة العقلية والبرهان المنطقي هما معيار الصدق في القول، فالمتكلّم الذي يعتمد المنهج العقلي لا يسعى إلى تهييج العواطف أو تحريك الانفعالات، بل يسعى إلى إرساء قناعة فكرية قائمة على الدليل، تُبنى عليها المواقف والقرارات والخطوات عن وعي وبصيرة بعيدًا عن الانفعالات والتقليد الأعمى.
يُعدّ المنهج الذي يعتمده المتكلّم في إقناع مخاطَبه من أهمّ المؤشرات التي يُقيَّم بها الحوار من حيث الصدق والمصداقية، فهو فعل تواصلي يسعى من خلاله المتكلّم إلى التأثير في فكر المتلقّي وسلوكه. والبعض يلجأ لإقناع الآخرين برأيه من خلال إلهاب المشاعر العاطفية وتهييجها وإثارة الانفعالات، دون أن يلتفت إلى أنه يطلق فقاعات في الهواء سرعان ما تتلاشى فلا تستقر في العقول الواعية، بينما منطق الحجة وتقديم البراهين العقلية يعد عاملًا مهمًا في التخاطب المؤثر والفعال في ساحة التحاور.
الحوار الفعال والمثمر هو الذي يقوم على أسس عقلية سليمة ويعتمد منهجًا منطقيًّا في عرض الأفكار وتفسير المواقف والدفاع عن القضايا، إنه خطاب يُحترم فيه عقل المتلقّي وتُقدّم له الحجج والبراهين بطريقة موضوعية ومنصفة بعيدًا عن التهويل والمغالطات، أما الخطاب الذي يعتمد على إثارة العواطف واستدرار المشاعر دون أن يُقيم حجّته على أساس من العقل والإنصاف فإنه سرعان ما يفقد مصداقيته، فالعاطفة – وإن كانت وسيلة فعّالة في التأثير المؤقت – لا تصمد أمام النقد العقلي والتحليل المنطقي، وحين يجنح المتكلّم إلى التلاعب بالمشاعر والمجادلة بغير الحق يصبح خطابه موضع ريبة وتُنفى عنه صفة الإقناع الحقيقي.
كلما كان الكلام عقلائيًا ومتّزنًا ومنصفًا ومبنيًّا على احترام الحقيقة والعقل كان جديرًا بالثقة، أما إذا افتقر إلى هذا المنهج الرشيد فإنه يتحوّل إلى أداة تضليل لا وسيلة تبيين. ولذا فإن المنهج العقلي المنطقي هو الركيزة الأساس لخطاب صادق يُسهم في بناء وعي سليم وثقة متبادلة بين المتكلّم والمخاطَب.




