هل نريد أن نكون ورثة أم شركاء في الحضارة

أمير بوخمسين
لماذا كانت بغداد وقرطبة ودمشق منارات للعقل والخيال، ثم صرنا نعيش على فتات ما يبدعه غيرنا؟
السؤال الأول، في جوهره، ليس عن الماضي بقدر ما هو عن قدرتنا على الإبداع في الحاضر. فهل عجزت الأمة العربية عن إنتاج ثقافةٍ جديدة، تحمل روحها الخاصة وتواكب العصر؟ أم أننا اكتفينا بترديد مقولات الأوائل دون أن نضيف سطرًا جديدًا؟ إن الثقافة بطبيعة الحال ليست تراكمًا معرفيًّا فحسب، بل قوة إنتاجية تولد من رحم وعينا بالذات. حين كانت الأمة تعرف وتعتز بنفسها وتثق بعقلها، أنتجت فلسفة ابن رشد، وطب ابن سينا، وفقه الشافعي، وشعر المتنبي الذي ما يزال يدوي بعد أكثر من ألف عام.
ولكننا اليوم، في كثيرٍ من الأحيان، لا ننتج الثقافة بل نستهلكها. نترجم الكتب ولا نكتبها، نعيد صياغة أفكار الغرب بلغتنا ونظن أننا أبدعنا.
انحسر السؤال، وتراجع النقد، وغابت الجرأة الفكرية، حتى صرنا نقدس القديم أكثر مما ننتجه من جديد. بعض الأسباب التي قد تفسر هذا التغير.. التغيرات الاقتصادية.. أثّرت الأزمات الاقتصادية أو السياسات الاقتصادية غير الفعالة على مكانة الدول أو الشركات. وعدم مواكبة التطورات التكنولوجية أدى إلى تراجع في القدرة التنافسية. والسياسات الحكومية غير المدروسة أو الفساد أثر سلبًا على النمو والتقدم. إضافة الى التغيرات الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى تغير في الأولويات والاهتمامات. التنافس الدولي مع ظهور منافسين جدد وتحسّن في أداء الدول الأخرى أثّر سلبًا على مكانة معينة. إضافة الى الأزمات البيئية والتغيرات المناخية والكوارث الطبيعية التي يمكن أن تؤثر على الاقتصاد والمجتمع. لذلك، من المهم دراسة هذه العوامل بشكل شامل لفهم سبب التغير في المكانة. الحضارة الخلاقة لا تولد في بيئة الخوف، ولا تنمو تحت ظل الوصاية. ففي العصور الذهبية، كانت حرية التفكير مفتاح النهضة، وقد سمح في الماضي بترجمة كتب اليونان، ليس لتقليدها، بل ليحاورها.
وفتح بيت الحكمة للعلماء من كل الأديان والمذاهب. تلك الروح المنفتحة هي التي أنجبت حضارة إنسانية تجاوزت حدود اللغة والعرق. أما اليوم، فقد ضاقت المساحة بين المبدع والرقابة، بين السؤال والاتهام. تحولت مؤسساتنا الثقافية إلى منابر للتكرار لا للاكتشاف، وصار المفكر الحقيقي يعامل كمتمرد على المألوف، وليس كمستنير. فكيف يمكن لأمة أن تنتج حضارة خلاقة وهي تخاف من السؤال أكثر مما تخاف من الجهل؟
ومع ذلك، لا يمكن القول إن الأمة ماتت إبداعيا. فبين هذا الواقع غير المرضي، تظهر محاولات مضيئة. في الفكر والثقافة محمد عابد الجابري قدم نموذجا لعقل عربي قادر على محاورة الحداثة دون أن يتنكر لجذوره. وترك مالك بن نبي مشروعًا حضاريًّا متكاملًا، يحلل أسباب القابلية للاستعمار ويقترح طريقًا للنهوض.
واستطاع الطيب صالح ومحمود درويش أن يعيدوا للعربية نكهة الجمال والكرامة. أما ما هي العوامل التي يمكن أن تخفف من تأثير هذه العوامل السلبية التي تؤدي إلى تراجع مكانة الدول! يمكن اتخاذ مجموعة من الإجراءات الإستراتيجية. 1. التخطيط الاقتصادي السليم وتعزيز السياسات الاقتصادية المستدامة والاستثمار في البنية التحتية لدعم النمو. 2. الابتكار والتكنولوجيا وتشجيع البحث والتطوير واستثمار في التكنولوجيا الحديثة لمواكبة التطورات العالمية. 3. تحسين الشفافية ومكافحة الفساد وتعزيز المؤسسات الحكومية لضمان إدارة فعالة. 4. التعليم والتدريب وتعزيز التعليم والتدريب المهني لزيادة كفاءة القوى العاملة والتكيف مع التغيرات في سوق العمل. 5. التعاون الدولي، عبر إقامة شراكات مع دول أخرى لتعزيز التجارة والاستثمار وتبادل المعرفة. 6. التكيف مع التغيرات الاجتماعية وتعزيز القيم الاجتماعية والثقافية الإيجابية، مثل التسامح والمساواة، لضمان الاستقرار الاجتماعي. 7. استدامة البيئة، وتنفيذ سياسات بيئية مستدامة وتقليل انبعاثات الكربون لحماية البيئة والتكيف مع التغيرات المناخية. 8. التنوع الاقتصادي وتشجيع تنوع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على قطاع واحد لتقليل المخاطر. باستخدام هذه العوامل، يمكن تعزيز القدرة على مواجهة التحديات والتكيف مع التغيرات السريعة في العالم.
هذه العوامل والنماذج تبين أن العجز ليس في الجينات العربية، بل في البنية التي تخنق المبدع وتمنع المبادرة. ليست المشكلة أن العرب لا يعرفون، بل أنهم لا يربطون المعرفة بالفعل. فالثقافة الخلاقة هي التي تترجم الوعي إلى مشروع، والفكرة إلى مؤسسة، والعاطفة إلى انجاز. حين نحرر التعليم من الحفظ، والإعلام من التلقين، والدين من التعصب، سيتنفس الإبداع العربي من جديد.
الثقافة هي الدرع الوحيدة التي تحمي الأمة من التلاشي. وما لم ندرك أن الخلق الثقافي هو مقدمة النهوض الحضاري، سنظل نعيش على أمجاد ماض لا يبني مستقبل.
لم تعجز الأمة العربية عن إنتاج ثقافة مبدعة، ولكنها ترددت في مواجهة ذاتها. ولم تتقاعس عن صناعة حضارة خلاقة، ولكنها استبدلت الابتكار بالتكرار. والسؤال اليوم: هل نريد أن نكون ورثة أم شركاء في الحضارة؟
فالميراث يستهلك، أما الشراكة فتبدع. وبين هذين الخيارين، يكتب مصير أمة.




