أقلام

رحلة الحديد في حياة الطفل: من مخزون الحمل إلى غذاء النمو

د. حجي الزويد

الحديد ليس مجرد معدن في الدم، بل هو وقود الحياة الذي يحمل الأوكسجين إلى خلايا الدماغ والجسم، ويحفظ للطفل نشاطه الذهني والجسدي. تبدأ رحلته منذ أن يكون الجنين في رحم أمه، وتستمر معه حتى سنوات الطفولة، تتبدل خلالها مصادره واحتياجاته، لكنها تبقى حاسمة لنموه وصحته.

المحطة الأولى: المخزون الأول… من رحم الأم

يبدأ الطفل حياته وهو يستمد الحديد من أمه عبر الحبل السري، وخصوصًا في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل.

كل وجبة غنية بالحديد تتناولها الأم، وكل قرص من مكملات الحمل، هو استثمار مبكر في دم طفلها القادم.

فالأم التي تعاني من فقر دم خلال الحمل، تنقل لطفلها مخزونًا ناقصًا، قد ينفد سريعًا بعد الولادة.

ولذلك يُعد تصحيح فقر الدم أثناء الحمل من أهم خطوات الوقاية من فقر الحديد عند المواليد.

المحطة الثانية: أشهر الاكتفاء… ثم النفاد:

يولد الطفل عادة بمخزون حديد يكفيه ما بين أربعة إلى ستة أشهر. وخلال هذه الفترة، يعتمد تمامًا على ما حصل عليه من أمه قبل الولادة.

يحتوي حليب الأم على كمية قليلة من الحديد، ولكنها ذات امتصاص فائق مقارنة بأي مصدر آخر، إذ يمتص جسم الرضيع منها أكثر من 50٪، بينما لا يتجاوز امتصاصه من الحليب الصناعي 10٪ إلى 15٪.

السبب في الامتصاص العالي من حليب الأم:

• يحتوي على عوامل مساعدة تسهّل امتصاص الحديد مثل اللاكتوفيرين.

•لا يحتوي على مركبات تُعيق الامتصاص مثل بعض الفوسفات أو الكالسيوم الزائد.

الخلاصة :

رغم أن كمية الحديد في حليب الأم قليلة، إلا أن امتصاصه فائق الفعالية. هذه المعلومة عالية الأهمية، لأنها تشرح لماذا لا يُصاب الرضع الذين يرضعون طبيعياً عادةً بفقر دم في أول 4–6 أشهر رغم كمية الحديد المنخفضة في الحليب

ولكن مع مرور الوقت، يبدأ هذا المخزون بالنفاد، وهنا تبدأ الحاجة الحقيقية لمصادر إضافية من الحديد عبر الغذاء أو المكملات.

المحطة الثالثة: الغذاء… الخط الدفاعي الأول:

عندما يبلغ الطفل عمر ستة أشهر، يبدأ إدخال الطعام الصلب، وهنا تتحدد جودة نموه الدموي والمعرفي في السنوات المقبلة. ينبغي أن تحتوي وجباته على أطعمة غنية بالحديد، مثل:

• صفار البيض

• الكبد والدجاج واللحم الأحمر

• العدس والفاصوليا والحبوب المدعّمة بالحديد

ولتعزيز الامتصاص، يُنصح بتقديمها مع أطعمة تحتوي على فيتامين C مثل البرتقال أو الفواكه الطازجة.

أما الإفراط في الحليب البقري بعد السنة الأولى فقد يُضعف امتصاص الحديد ويؤدي إلى ما يُعرف بـ “فقر الدم الغذائي الناجم عن الحليب”، لذا يجب ألا تتجاوز كمية الحليب اليومية ٢٤ أونصة سائلة ( ٧٠٠ مل تقريبا)  يوميًا.

المحطة الرابعة: مؤشرات تدق ناقوس النقص:

قد لا تلاحظ الأم نقص الحديد في بدايته، لأن الجسم يحاول التعويض تدريجيًا.

ولكن مع الوقت تظهر العلامات التالية:

• شحوب البشرة والشفاه

• خمول وضعف في النشاط

• ضعف الشهية وانتقائية في الطعام

• بطء في النمو الجسدي أو الذهني

• صعوبات في التركيز والتذكر عند الأطفال الأكبر سنًا

وعند الرضع، قد يظهر بطء في اكتساب الوزن أو تأخر في المهارات كالحبو والمشي.

المحطة الخامسة: التشخيص العلمي:

لا يُشخّص فقر الحديد بالعين فقط، بل بالتحاليل المخبرية التي تشمل:

الهيموغلوبين، ومستوى مخزون الحديد (الفيريتين)، وقياسات حجم كريات الدم (MCV وMCH)، وفحوصات أخرى في بعض الحالات.

هذه الفحوصات تمنح الطبيب صورة دقيقة عن حالة الحديد في الدم والمخزون داخل الجسم، ويُوصى بإجرائها في عمر ٩ إلى ١٢ شهرًا أو أبكر عند الحاجة.

المحطة السادسة: وقاية تبدأ من الأم:

رحلة الوقاية من فقر الحديد لا تبدأ بعد الولادة، بل قبلها:

• أن تهتم الحامل بتغذية غنية بالحديد، وتلتزم بمكملاتها.

• وأن تحافظ الأم المرضعة على نظام غذائي متوازن.

• وأن تُقدَّم للطفل أطعمة متنوعة ومدعّمة بالحديد بعد الشهر السادس.

• وأن تتم متابعة الوزن والنمو والفحوص الدورية مع طبيب الأطفال.

خاتمة الرحلة:

الحديد ليس مجرد رقم في التحليل، بل رمز للحياة والنمو والعافية. إنّ الحفاظ على مستواه الطبيعي في جسم الطفل يعني أن دماغه يفكر جيدًا، وقلبه ينبض بقوة، وجسده ينمو بثقة.

رحلة الحديد تبدأ من رحم الأم، ولكنها لا تنتهي إلا حين يكبر الطفل قويًا، حاضر الذهن، ممتلئ الحيوية، تمامًا كما أراد له الله أن يكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى