أقلام

جمال المرهون أيقونة العطاء

فؤاد الحمود

لوعة الفراق مؤلمة وكبيرة، خصوصاً حين يكون عنصر المفاجئة فيها، فقد أخبرني الأربعاء السابق وفي آخر اتصال وبعد أخذ الجرعة التي امتدت لخمسين ساعة، وبعد تطمين الأطباء له أصبح مستعداً لزيارة معشوقه النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، ليعزيهم بذكرى استشهاد الصديقة الزهراء عليها السلام.

لكن الخبر أصم مسمعي حين وصلني كالصاعقة أنه لم يذهب للمدينة، وإنما هو الاتصال الأخير، والذي حمّلني هماً كبيراً، فقد كان لي أبو محمد ملاذاً كما كنت له، أشاطره ويشاطرني الهموم والآلام في هذه الدنيا المؤلمة.

من يعرف الأخ المهذب المؤمن عن قرب سيجد فيه من أعظم مصاديق “أيقونة العطاء”، ففي كل مراحل عمره المبارك والتي حاصرته الكثير من المتاعب الجسدية والنفسية، لكنه يتخطى كل تلك الصعاب ويهزمها إلا المرض الأخير.

شخص تربى على العطاء ونكران الذات بكل ما يعنيه المفهوم، ففي مجال العمل التطوعي والذي يظهر إبداعاته لمختلف شرائح المجتمع، فقد حمل هم مجتمعه ليس القريب فحسب؛ بل تعدى الحدود وعمل كنحلة في مراكز العطاء.

تواصله ربما يقل نظيره في أبناء جيله، فبين الفينة والأخرى تجد له بصمة مميزة، ولم تكن الحواجز تمنعه عن العمل المجتمعي، إضافة إلى بصيرته وبعد نظره جعله ينخرط في كل عمل من شأنه أن يصلح الأجيال.

فالمواكب العزائية شاهدة أن له شخصية فاعلة ومؤثرة، حتى مع بعض الصعوبات التي عايشها، ولم تكن المجالس المغلقة حبيسته فهو خلف ضالته.

فمشروع كالدوخلة والتي كان يقام على كورنيش سنابس ورغم تحفظه على بعض الأمور لكنه يتسامى بغية العطاء ونشر الوعي في العمل المؤسسي المجتمعي.

ثم مهرجان واحتنا فرحانة والذي كان يقام على كورنيش القطيف، تجد له ركنه وزاويته المميزة في إدخال السرور على الأطفال الزائرين عبر جذبهم بلوحة فنية مشوقة من خلال اختيار فريق عمل يشحذ فيهم الهمم.

حتى منزله استطاع أن يجعل منه مركزاً للوعي حين حوله إلى مرفأ، يبحر من خلاه بالأطفال تارة، وأخرى بمشاركة كوكبة من أهل الفضل والعلم من خلال برامج نوعية، وذلك بطرح مفهوم جديد للعشرات الحسينية.

تطلعاته كبيرة ورؤاه عميقة بتأصيل البرامج القرآنية أو مجالس الأطفال الجاذبة؛ فسعى عملياً بالتنسيق لإخراج كتاب 100 آية ورواية والذي يحوي جهداً جباراً أشرف عليه حتى خرج بحلة جاذبة ومحتوى راق، يحتاجه كل بيت.

ولم يقف عند ذلك المحتوى ليعمل مع بعض المهتمين لإيجاد كتاب فيه أفضل الطرق لحفظ كتاب الله بطرق إبداعية.

وربما يواجه بعض الظروف العصيبة والخارجة عن الإرادة لكنه يعتبرها محطة ليبدأ بعدها مشواراً جديداً بدون أي تصادم، بل يستثمر التواصل مع الجهات المنظمة معتقداً أن الحق يؤخذ بطرق سلمية.

ومع هذه الإصابات البدنية التي ألمت به إلا أنها لم تكن عائقة له، سواء على مستوى التواصل مع الداخل أو الخارج رافعاً راية الدين في الدرجة الأولى، ليلهم من حوله أن الإعاقة البدنية ليست في الجسد وإنما في الإرادة.

كل هذا العطاء الذي كان يقوم به لم يكن للأضواء أو الصور أو البروز أي أهمية في حياته العملية، بل كان إيمانه الراسخ وراء وجوده كظل.

بل حتى في مرضه الأخير والذي أجهده وأرهق قواه لم يكن لديه أي مانع أن يقيم مجلساً أو يشارك في موكبٍ أو حتى الطبخ الذي يساهم فيه، كل ذلك جعل منه مدرسة في العطاء وليس أيقونة.

رحيل شخصية مثله ليست خسارة لأسرته ومحبيه والذي أسأل الله أن يربط على قلوبهم، بل خسارة لمجتمعه الإيماني الذي خسره، وإني لأعزي نفسي، وأسال الله أن يلهمني الصبر، وأن يجمعنا معه عند مليك مقتدر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى