تسبيح فاطمة الزهراء عبادة القلب وهدوء الروح

د. حجي الزويد
نبض التسبيح الفاطمي تراتيل النور بين الأرض والسماء:
إن تسبيح السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هو من أعظم الأذكار وأشرفها، حتى ورد في الأحاديث أنه أفضل من ألف ركعة، وأنه ما عُبد الله بشيء من التمجيد أفضل منه. وقد خُصّت به الزهراء (عليها السلام) هديةً من رسول الله ﷺ، فصار شعارًا للمؤمنين وذكرًا خالدًا إلى يوم القيامة.
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما عُبد الله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة (عليها السلام)، ولو كان شيءٌ أفضل منه لنحّله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) (١).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: يصلى في شهر رمضان زيادة ألف ركعة. وساق الحديث إلى أن قال: فإذا سلَّمت في الركعتين سبِّح تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وهو: الله أكبر أربعًا وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين مرة، وسبحان الله ثلاثًا وثلاثين مرة، فو الله لو كان شيء أفضل منه لعلَّمه رسول الله (صلى الله عليه و آله) إياها … (٢).
إنّ الروايتين الشريفتين اللتين وردتا عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) تكشفان المكانة العظمى لتسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) في ميزان العبادة والذكر. فقول الإمام الباقر: «ما عُبد الله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة» هو بيانٌ قاطع بأنّ هذا الذكر ليس مجرد تسبيح لفظي، بل عبادةٌ جامعة تفتح أبواب القرب الإلهي بأبسط الألفاظ وأعمق المعاني.
وفي تتمة الحديث تأكيد بليغ حين يقول: «ولو كان شيء أفضل منه لنحّله رسول الله فاطمة»، إذ يُفهم منه أنّ هذا التسبيح يمثل ذروة ما أوصى به النبي ﷺ من عبادةٍ جامعة للعرفان والتسليم والشكر، فهو إرث النبوة وميراث الروح النقية التي جسّدتها الزهراء (عليها السلام).
وفي حديث الإمام الصادق (عليه السلام) عن تسبيحها بعد الصلاة، خصوصًا في شهر رمضان، دلالة على أنّه ختام كل عبادة وتمام كل خضوع، كأنه ختم النور على العمل ليصعد خالصًا إلى الله. فقوله: «فوالله لو كان شيء أفضل منه لعلّمه رسول الله إياها» يبرز أنّ التسبيح ليس عبادة خاصة بها، بل منهج تربية روحية للأمة، يُهدي إلى صفاء النفس واستحضار عظمة الخالق في كل حين.
تأملات في تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) :
إنّ جمع التسبيح بين الله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله هو اختزالٌ لمعاني التوحيد الثلاثة: التعظيم والتنزيه والشكر. فمن كبّر فقد وحّد، ومن سبح فقد نزّه، ومن حمد فقد شكر. وبهذا يجتمع في تسبيح الزهراء (عليها السلام) العلم والعمل، القلب واللسان، الذكر والفكر.
وأجاب العلامة الراحل السيد جعفر العاملي في كتاب [مختصر مفيد]، حول المناسبة بين طلب الزهراء (عليها السلام) خادمة تساعدها وتخفف عنها بعض متاعبها الجسدية، وبين ما عوضها الله به، وهو التسبيح المعروف بتسبيح الزهراء؟!..
” إن المناسبة بين طلب الزهراء (عليها السلام)، وهذا التسبيح تصبح ظاهرة، إذ أن الموضوع موضوع حاجة، وضعف، ولجوء إلى الغني، القوي، الرازق، الرحيم، إلى من يعين، ويسد النقص، ويرفع الحاجة، فما أشد تناسب ما طلبته الزهراء (عليها السلام) مع ما أُعْطيتْه.. ولا بد لنا من التذكير هنا بأننا لا يمكن أن نتصور الزهراء (عليها السلام) .. إلا مدركة لذلك كله قبل طلبها وبعده، ولكنها (عليها السلام) قد أرادت للناس أن يعوا ما وعته، وأن يدركوا ما أدركته، فكان لا بد لها من أن تعلن بالطلب من الله سبحانه، ثم أن يجيب الله طلبها ويخلّد ذلك إلى يوم القيامة، ليكون ذلك هو البيان الشافي والكافي من الله سبحانه، ورسوله (صلى الله عليه وآله) وتكون الزهراء (عليها السلام)، معلمة وهادية للبشرية، وسبيلًا إلى الله سبحانه. ونستطيع أن نفهم طلب الزهراء عليها السلام.” (٣) انتهى.
ولذلك لم يكن تسبيحها بديلًا عن خادمٍ جسدي فحسب، بل خادمًا للروح، يُسكّن التعب، ويبدّل العجز سكينةً، ويُعلّم الإنسان أنّ الراحة الحقيقية في الذكر وليس في الكفّ عن العمل. ومن هنا نفهم لماذا أوصى به الأئمة بعد كل صلاة، فهو تاجُ الأذكار، ودرّةُ التسبيحات، وميراثُ الزهراء الخالد الذي لا يعتريه نقصان، ولا يتقدّمه ذكر في الفضل والقبول
وهكذا صار تسبيح الزهراء (عليها السلام) جسرًا بين الأرض والسماء، يذكّر كل مؤمن أن الخدمة الحقيقية ليست لمن يخفف عن الجسد، بل لمن يرفع الروح نحو الله.
الذكر الذي لا يَخبو: تسبيح الزهراء جسر المغفرة وطمأنينة القلوب:
ورد عن الصادق أنه قال: (إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة الزهراء كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه فإنه لم يلزمه عبد فشقي.)(٤)
وقد أتى في الروايات المعتبرة أنّ الذكر الكثير المأمور به في الكتاب العزيز هو هذا التسبيح ومن واظب عليه بعد الصلوات فقد ذكر الله ذكرًا كَثِيرًا وعمل بهذه الآية الكريمة: واذْكُروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا.(٥)
وبسند معتبر عن الباقر أنّه قال: (من سبح تسبيح فاطمة سلام الله عليها ثم استغفر الله غفر الله له وهو مائة على اللسان وألف في الميزان ويطرد الشيطان ويرضي الرب).
وبأسناد صحاح عن الصادق أنه قال: (من سبح بتسبيح فاطمة قبل أن يثني رجليه من صلاة الفريضة غفر له ووجبت له الجنة).(٦)
وفي سندٍ معتبر آخر عنه أنّه قال: (تسبيح الزهراء فاطمة في دبر كل فريضة أحب إليّ من صلاة ألف ركعة في كل يوم.)
(٧)
وفي رواية معتبرة عن الباقر قال: (ما عبد الله بشي من التسبيح والتمجيد أفضل من تسبيح فاطمة ولو كان شي أفضل منه لاعطاه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فاطمة).
(٨)
هذه الأحاديث الشريفة توجز مكانة تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، إذ يظهر من الروايات أنه ليس مجرد ذكرٍ مستحب، بل عبادةٌ جامعة تُنير القلب وتربّي الجيل منذ الصغر. فقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة كما نأمرهم بالصلاة»، يحمل دلالة عظيمة على أن هذا التسبيح هو ركن تربوي وروحي يجب أن يُغرس في الطفل كما تُغرس الصلاة، لأنه يربطه بالله في أولى مراحل وعيه، ويعلّمه كيف يهدأ بالذكر ويستنير بالتوحيد.
ثم تأتي الروايات التي تصف هذا التسبيح بأنه الذكر الكثير الذي أمر به الله تعالى في قوله: ﴿واذكروا الله ذكراً كثيراً﴾، لتكشف أنه ليس مجرد تسبيحٍ عددي، بل ذكرٌ نوعيٌّ عظيم يجمع أركان التوحيد الثلاثة: التنزيه، والتعظيم، والحمد. فهو عبادة القلب واللسان والفكر معًا، ترفع الذاكر من العادة إلى العبادة، ومن التكرار إلى الحضور.
ويبلغ التسبيح ذروة فضله في قول الأئمة (عليهم السلام): «من سبّح بتسبيح فاطمة قبل أن يثني رجليه من صلاة الفريضة غُفر له ووجبت له الجنة»، وهو تعبير عن كمال الارتباط بين الصلاة والذكر؛ فكأن الصلاة ترفع الجسد، والتسبيح يرفع الروح، ليكتمل اللقاء بالله. ومن العجيب أن يُقارن الإمام بينه وبين ألف ركعة، فيفضّله عليها، لأن أثره في النفس والميزان أعظم، كما قال الباقر (ع): «هو مائة على اللسان وألف في الميزان»، أي أن قيمته ليست في عدد الحروف، بل في صدق النية وعمق المعنى.
في محراب فاطمة.. يتجلى سرّ التسبيح الأعظم:
إن هذه الروايات تجعل من تسبيح الزهراء (عليها السلام) منهاجًا يوميًا للسكينة، ومفتاحًا للمغفرة، وسلاحًا ضد وساوس الشيطان، حتى يصبح الذكر عادةً روحية تُغني عن كثير من القلق والتعب. ولعل سرّ هذا الفضل أنه وُلد من قلبٍ طاهرٍ صابرٍ هو قلب فاطمة، فصار تسبيحها دواءً للقلب وضياءً للعقل، كما أراد النبي ﷺ أن يكون هدية خالدة لأمته عبر ابنته البتول
فيا من ضاق صدره أو أثقله الحمل، تذكّر تسبيح الزهراء، وردّده كما ردّدته هي في ليلها الطويل، ليصير التعب قربًا، والهمُّ أنسًا، والذكرُ جسرًا بينك وبين الله، كما كان جسرًا بينها وبين النور الأبديّ.
هوامش :
(١) الكافي، الكليني: ٣/٣٤٣ ح١٤، تهذيب الأحكام، الطوسي: ٢/١٠٥ ح١٦٦، بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ٤٣/٦٤ ح ٥٦.
(٢) تهذيب الأحكام، الطوسي: ٣/٦٦ — ٦٧ ح٢١.
(٣) مختصر مفيد، السيد جعفر مرتضى العاملي: ٢/١١٦ — ١١٨.
(٤)(٥) (٦) (٧) (٨): الباقيات الصالحات للعلامة عباس القمي




