أقلام

قصص العاشقين 47… روت مأساتها بدموعها

عبد الكريم النمر

بدأت ميرا تسرد حكايتها، ألمها، مأساتها، ويا لتيها لم تبدأ.

قلبها وروحها ومشاعرها تسابقت قبل أن تنطق شفتيها.

بدأت تسرد ألمها ثم ألم أمها، تعبها وتعب أبيها، ومأساتها، وليلها الطويل الذي لم ينتهِ.

وما أن تحرّكت شفتاها حتى تغيّر وجهها، وذابت ابتسامتها في دموعٍ غزيرةٍ ملأت عينيها.

ليتني لم أسألها، لأُبقي على الضحك والقهقهة قبل أن يتحولا إلى دموعٍ تملأ خديها.

لم أسمع، بل لم أفهم ما تقول!

أكان لأن لسانها لم يكن عربيًّا مثل زوجها أحمد؟

أم لأنها كانت تحكي بغير لسانها، بروحها، بدموعها؟

نظر أحمد إليّ، ففهِم ما يدورُ في داخلي، وقال بلطفٍ:

“هل تفهم ما تقول، أم أروي قصتها أنا؟”

وما إن أنهى سؤاله حتى سارعتُ تقول بصوتٍ متقطّع:

“لا… لا، دعني أقولها بنفسي، فهذه مأساتي، وأنا خيرُ من يرويها”.

ساد صمتٌ عميقٌ لثوانٍ…

وخُيِّل إليّ أنّ جبل النور همس في أذني:

“اسمعها يا هذا، فهذه التي تتحدث ليست امرأةً عادية، بل روحٌ ذاقت العجزَ خمسين عامًا، حتى لامستها نفحةٌ من بركة الحبيب المصطفى (ص).

كانت يداها ترتجفان وهي تمسح دموعًا لا أعلم: أكانت دموعَ راحةٍ بعد طول عناء، أم دموعَ ذكرياتٍ تمنَّت نسيانَها إلى الأبد.

كلُّ كلمةٍ منها تخرجُ ببطءٍ، كأنها تتوكّأ على ذكرياتٍ موجعة، وصوتها يحملُ في نبراته قصةَ عمرٍ طويل.

كانت عيناها تلمعان بدموعٍ من نوعٍ خاص، دموعٍ لا تُشبه دموعَ الألم، بل تشبه النورَ حين يفيض من القلب.

نظرت إلى زوجها أحمد ثم أدارت وجهها نحوي قائلة:

قصتي يا ولدي بدأت من هناك، من بعيد، من بلدةٍ صغيرةٍ تُسمّى غُلمِت في شمال باكستان.

هناك وُلدتُ جميلةً كما يقولون، ألهو مع بنات جيلي تحت سفح الجبل، لا نعرفُ من الدنيا إلا الضحك ولعب الصبايا والغناء الرقيق مع صدى الجبل.

ثم رفعت رأسها ونظرت نحو الجبل قائلةً:

“كم نحبُّ الجبال، إنها جميلةٌ، خضراءُ طوال العام. كانت ملعبَنا وساحةَ فرحنا، نتسابق نحوها كما نتسابق نحو الحلم.

من تصل إلى صخرةِ الوردِ الأبيضِ فهي النشطة، ومن تحضر غصنًا أخضرَ من السفح فهي الثانية، أما من تصل إلى أعلاه وتحضر وردةً حمراءَ، فهي المتألقة بلا منافس.

كنا نحبُّ الجبل يا ولدي، نلعب عند سفحه كلَّ مساء، نصرخُ فرحًا، ونعود في الليل نحمل له الشكرَ كما نحمل له التعلّق.

لم يكن الجبلُ، يا ولدي، مجرّد صخرٍ نرتقيه، بل كان ذاكرةً نعيش فيها، وصدرًا يحتضننا كما تحتضننا أمهاتُنا.

كنا نضحكُ على سفحه، ونرمي همومنا في وديانه، حتى حَفِظ أنفاسنا وأصواتنا وحَفِظْنا صوته وغناءه الجميل.

كنّا نظنُ أنّ الجبلَ صديقنا، يضحكُ لنا حين نضحك، ويصمتُ معنا حين نتعب.

حتى جاء يوم الاثنين المشؤوم

يومٌ صار فيه الجبل الذي أحببناه عفريتًا نخشاه، بعد أن كان صديقًا نغفو على كتفه.

ذاك اليوم المشؤوم.

لم يكن عاصفًا ولا ممطرًا،

ولكنه اليوم الذي غيّر فيه الجبل ثوبه الذي نعرفه.

اليوم الذي تحوّل فيه الجبل من صديقٍ حنونٍ إلى عفريتٍ نخشاه، ونتمنى لو ولدنا بعيدين عنه.

ذاك الاثنين لم يكن يومًا معتادًا

يومٌ مات فيه الضحك في قريتنا، وصار الغناء الذي يردده ذلك الجبل صراخًا، وأصبح واديه قبرًا واسعًا لأحلامنا.

ثم تنهّدت ميرا طويلًا، ومسحت دمعةً لم أعرف إن كان من الألم الذي رُبمّا ما يزال يرفضُ الخروجَ منها أم من ذكرى حزينة تمنت نسيانها للأبد،

ثم قالت بصوتٍ خافتٍ يخرج كأنّه من بين صدى الصخور:

يا ولدي… ما يزالَ ذلك اليوم المشؤوم يزورني كل ليلة، لا في الحلم، بل في يقظتي، كأنّ الحجارةَ ما تزال تتدحرجُ في داخلي.

سكتت قليلًا، وكأنّها تسمع ما لا نسمعه!

ثمّ واصلت:

كان المساء يهبطُ ببطء، وأذانُ المغرب يتهيأ للصعود من المآذن

وفجأةً، اهتزت الأرض، ورقص الحبيب فرفعنا أعيننا لننظر أي نوعٍ من الورد سيهدينا!!

ولكننا رأينا ما لا يُصدّق، كما لو أن الحبيب قد مسّه طيف من الشيطان.

وردًا من حجارةٍ كبيرةٍ وصغيرة، ناعمة الملمس ولكنها قاتلة، تتدحرجُ كالرعد، خضراء وسوداء، تتسابقُ نحونا من كل اتجاه، تسيرُ بسرعةِ البرق، لترتطم بنا من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، وكأنّ الشيطان يمسك بكل حجرةٍ منها.

صرخت مايا… وركضت رزان… وبكت أفشانه… وسارة سقطت دون صوت.

أمّا ملالا الصغيرة فقد أخذتها الحجارة معها، ومعها زويا، وهيرا، وفردوس، وفاريها، وشازيا، وتنزيلا…

كثيراتٌ حضنهنّ الحبيب وأخذهنّ معه إلى الوادي السحيق.

وميرا!! ميرا!!

وميرا لم تفق إلا بعد عدةِ أيام في حضنِ أمها وهي تبكي لحال ابنتِها، وأبوها يلوجُ في الدار يبحثُ عمّا يخففُ ألم ابنتهِ المدلّله.

كان الانهيار الجبلي قاسيًا،

فما ترك بيتًا في القريةِ إلا وفيه نائحة، ولم ينجُ صدرٌ إلا وقد علق فيه حجرٌ من فاجعة.

عندها لم أتمالك نفسي، فقلت لها وأنا أتنفّس الحزن معها:

“ذكرتيني يا أمَّاه بفاجعةٍ لا تقلُّ عن فاجعتكم في غُلمِت،

فبلدتنا الحبيبة (القديح) كذلك، لم يبقَ فيها بيتٌ إلا وشمَّهُ رماد الحزن،

“تلك الخيمة التي كان يُفترض أن تزفَّ صبايانا إلى أحلامِهنّ،

تحوّلت في لحظةٍ إلى فمٍ من نار، ابتلع زينتَهنّ وضحكاتِهنّ، وامتزجت رائحةُ العطورِ بالدخان، وغدت أصواتُ الدفوف صرخاتٍ تناجي الله…”

وبدل أن يُرفع الحِناءُ على الأكف،

رُفعَت الأكفُّ بالدعاء والبكاء.

في ليلةٍ احترق فيها الفرح، وزُفّت العرائس إلى السماء.

وكأنّ الشيطان الذي نفث في جبلكم هو ذاته الذي نفث في خيمتنا وحوَّل فرحنا إلى حزنٍ لا يُنسى.

بكت القديح حتى غسلت دموعها الطرقات، وبكت معها البلاد بأجمعها،

وكأنّ الأرض كلها كانت أمّاً فقدت بناتها في ليلة واحدة.

بكينا معًا، امتزجت دموعنا، حتى غدت غُلمِت تبكي القديح، والقديح ترثي غُلمِت، وكأنّ بين جبل غُلمِت وخيمة القديح روحٌ

لا تُرى.

بعدَ أيامٍ من الانهيار، أدركَ والدُ ميرا أنه لا يستطيع وحده تخفيف ألم ابنته. أخذها من طبيب إلى آخر، ومن معالج محلي إلى آخر، بحثًا عن أي علاج يمكن أن يُعيد لها القدرة على المشي.

كانت بلدتهم صغيرة، ولم تكن فيها مستشفيات متقدمة، بل فقط بعض الناس الذين يستخدمون طرقًا تقليدية بسيطة، غالبًا بالأعشاب أو بالتدليك أو قراءة الأدعية، وأحيانًا بمجرد الكلمات الطيبة.

يا ولدي

أبي حاول كل ما يستطيع لعلاجي، أخذني من طبيبٍ إلى حكيم، ومن بلدتي الصغيرة إلى أخرى أكبر، ولم أستفد شيئًا.

وذاتَ يومٍ، وبعد أن استنفد أبي كلَّ سبيل، اقترحَ عليه أحدُ شيوخِ بلدتنا أن يأخذني الى الحكيم الصوفي الذي يثقُ به أهلُ البلدة بحكمته وإيمانه.

رجلٌ يؤمن بأنّ الروح تشفي الجسد، وأنّ الشفاء يبدأ من اتصال القلب بمن يحبّهم الله.

جلسَ الحكيمُ يستمعُ إلى قصةِ ميرا وأعراضها، وللجهود التي بذلها والدها دون جدوى. ثم قال بصوتٍ هادئٍ، يختلط فيه الإيمانُ باليقين:

“علاجُ ميرا أن يلامس جسدُها حجرًا أو أيَّ شيءٍ لامسه جسدُ النبي (ص)، فإذا تمكنت من ذلك، شُفيت ابنتك”.

خرجَ والدي من عنده، وقلبه مملوءٌ بالأمل، وعيناه تتلألآن بخيال رحلةٍ إلى مكة أو المدينة، رحلةٍ تتجاوز حدود الفقر والمسافات، رحلةٍ يبحث فيها عن أثرٍ نبوّيٍّ يلمس جسد ابنته، فيُشفى قلبُه قبل جسدها.

ولكنّ الفقرَ والقيودَ المادية حالا بينه وبين الحلم، فظنّ والد ميرا أن الأمل قد انتهى، وأنّ سنواتِ الألم ستظلُّ ملازمةً لابنته.

ومع ذلك، لم يُطفئ قلبَه شعلةَ الإيمان، وظلَّ يحملَ حلم ابنته وأمنيتَه هو، متمسّكًا بوعدِ الحكيم الصوفي، بأنّ نورَ الحبيب المصطفى (ص) سيُضيء الطريقَ ويشفي ابنته.

حين بلغت ميرا الخامسة والعشرين، تقدم ابن عمها أحمد لخطبتها.

لكنّ أمّها رفضت في البداية، خوفًا عليها من أعباء الزواج ومسؤولياته، فابنتها لا تزال تعاني من إصابةٍ تجعل المشي عليها شاقًّا وصعبًا.

غير أنَّ أحمد لم يتراجع. بل قال بصراحةٍ وبقلبٍ صادقٍ:

“أعرفُ قصتكِ، وأعلمُ كلَّ ألمكِ وكلَّ صعوبةٍ مررتِ بها، ومع ذلك أريدُ الزواجَ منكِ”

لم يكن كلامه وعدًا عابرًا، بل عهدًا صادقًا: أن يعمل ويجمع المال ليصطحب ميرا إلى مكة والمدينة، ليتمكن من لمس جسدها بقطعةٍ لامسها الحبيب المصطفى (ص)، على أمل أن يُشفى جسدها ويكتملُ حلمُها، ويحققّ هو أيضًا حلمه.

مضت السنوات، وكان كل يومٍ لهما تحدٍ جديد، غير أنّ الحب والإصرار جعلا أحمد لا يعرفُ الكلل، وجعل ميرا تؤمن بوعده كمن يؤمن بمعجزة.

وفي هذا اليوم، في الغار المبارك، تحقق حلمُ أحمد بالوقوف والصلاة في موضعٍ صلّى فيه الحبيب (ص).

أما ميرا، فكانت تمشي في الغار بخطوات بطيئة، تلامسُ كل زاويةٍ وحجرٍ، وكل موضعٍ مسّه جسد الحبيب (ص).

وكأنّ كل لمسةٍ تنقل إليها دفء الشفاء وتجدد قوتها. كانت يداها تتحرك برفقٍ، ودموعها تتساقط صامتة، دموع لا للألم، بل عرفانٌ وحبٌّ وشكرٌ.

ثم اشتدّ بكاء ميرا وهي تذكر أبيها وتقول “مات قبل أن يرى شفائي”، وتذكر أمها قائلةً: “السلامُ عليك يا أماه”

رفعت بصرها نحو قمة الجبل، والدموع تغسلُ وجنتيها، تشكر النبيَّ (ص) أن تحقق حلمها وشفاؤها،

ثمّ قالت بصوتٍ مرتجفٍ تخنقه العبرة:

“يا رسول الله… ابنتي فاطمة، التي سميّتها باسم ابنتك الحبيبة، تُبلغك السلام، وأوصتني أن أزور فاطمتك، وأخبرها أن فاطمةَ أحمد… تُحبُّ فاطمةَ محمد.”

ابتسم أحمد وهو ينظرُ إليها وقال مازحًا:

“هذه أول مرة أراكِ فيها لا تتكئين على العكاز، بل تحملينه للذكرى فقط”.

همسة عاشق:

لا يَشفى الجسدُ حتى تهدأَ الروحُ،

ولا تهدأُ الروحُ حتى تُلامس أثرًا من الحبيب المصطفى (ص)، أو من أهلِ بيته صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى