أقلام

الخارطة في ذهنك ليست هي الواقع

شكرية الحمادة

في ازدحام الحياة، ومع تباين المواقف والرؤى، ننسى أحيانًا أن ما نراه ليس بالضرورة هو الحقيقة الكاملة. فكل إنسان يرى العالم من خلال “خارطته الذهنية” الخاصة — تلك التي شكّلتها تجاربه، ومعتقداته، ومشاعره، وحتى جراحه القديمة.

ولهذا يقول علماء التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية:

“الخارطة في ذهنك ليست هي الواقع.”

فنحن لا نرى الأشياء كما هي، بل كما نحن. تمامًا كما قال الله تعالى:

﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

هذه الآية الكريمة تذكّرنا أن منظورنا لا يحيط بالحكمة الإلهية، وأننا قد نخطئ في تقدير الخير والشر لأننا نحكم وفق “خارطتنا” لا وفق “الواقع”.

اختلاف الخرائط… واختلاف التفسير كثير من المواقف اليومية تُثبت لنا أن الحقيقة واحدة ولكن “الخرائط” متعددة، مثل الأم والحلوى

حين تمنع الأم أبناءها من تناول الحلوى، يراها الأطفال قاسية، بينما تنبع نيتها من الحب والحرص على صحتهم.

والزوج الصامت قد ترى الزوجة أن زوجها لا يحبها لأنه لا يعبّر بالكلام، بينما هو يعبّر بالفعل والرعاية والمسؤولية. فكلاهما محبّ، ولكن بلغة مختلفة.

ولعلّ قول الإمام علي عليه السلام:

“احمل أخاك على سبعين محملًا من الخير.” هو دعوة لتوسيع خرائطنا قبل أن نصدر أحكامنا.

الوعي يحرّرنا

تحكي إحدى القصص أن سجينًا ظلّ في الأسر ظلمًا لسنوات، ولما أُطلق سراحه قيل له: “ألست غاضبًا ممن سجنوك؟”

فقال بهدوء: “كنت سأكون أحمقًاإن سمحت لهم أن يسجنوا عقلي بعد أن أطلقوا جسدي.”

هنا تكمن الحرية الحقيقية — ليست في تغيير الواقع، بل في تغيير نظرتنا إليه.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

وفي الختام: إن كثيرًا من العلاقات تنهار، والصداقات تنكسر، ليس لأن الواقع مؤلم، بل لأن خرائطنا ضيقة.

حين نُدرك أن رؤيتنا ليست الحقيقة المطلقة، تتّسع صدورنا، وتلين أحكامنا، ويعمّ فينا السلام.

لا تغيّر الناس أولًا،

غيّر نظرتك إليهم.

فكلما وسّعت خارطتك… اتسع عالمك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى