أقلام

فخ الحنين

أمير الصالح

قال لي: لا ترجع للمكان ذاته الذي تحمل به ذكريات جميلة فإن الزمان تواطأ عليك وعلى المكان. فكل شي تغير ويتغير، حتى أنت كبرت وتغيرت، وتغيرت أيضًا بعض قناعاتك.

قلت له: هل هذه التوصية تخص محطات السياحة أو حتى مسقط رأسك وديرة أجدادك ؟ لأني سمعت مقولة مفادها: حب المكان من الإيمان.

فرد وقال لي: عندما يكون المكان محل كرامة وبه حقوق مصانة وأرواح جذابة وقلوب طاهرة وجيرة طيبة. وكل من يجلسون حولك يبادلونك الاحترام واللباقة بالتعامل كما كان الحال مع من عشت معهم في فترة طيبة من ماضي عمرك. فكن على ثقة بأن لا الوجوه التي ستراها هي ذات الوجوه التي رأيتها سالفًا ولا الأنفس هي الأنفس التي تركتها قبل عدة سنوات وإن ظلت الأماكن كما كانت!! عزيزي، احتفظ بذكراك صافية ونقية من الشوائب ولكن امضِ للأمام لاكتشاف جميل حاضرك، واعمل لصنع مستقبل أفضل لك.

قلت له: كلامك كلام إنشائي تشاؤمي

قال لي: وتفاعلك أنت تفاعل عاطفي محض. كن عقلائي وبراجماتي وسترى الوجود ببصيرة أفضل وأنقى. حنينك في الواقع ليس للأمكنة ولكن للأرواح التي كانت هناك يومذاك والأنفس الطاهرة التي تعاملت معها حينذاك. ادعوا لتلك الأرواح الطاهرة بالرحمة أو طول العمر إن كانت ما تزال موجودة،

وتذكر أن أشخاصًا وأماكنًا وأنفسًا وتجارب كُثر لم تكتشفها ولم تعشها بعد، وقد تكون تلك الأنفس والأماكن آفضل من تلك التي مرت عليك سابقًا. كل ما في الأمر أنك تخشى المجهول والمستقبل وتحن للماضي الذي تعرفه وتستأنس بتجارب خضتها وتخشى تجارب لم تخضها بعد.

هل تتوقع إذا رجعت لمدينة ترعرت بها في صباك وأحببتها ثم غادرتها طلبًا للتعليم والرزق وأمضيت قرابة ٣٠-٤٠ سنة بعيدًا عنها وإن كنت تحن إليها، هل تتوقع أن ترجع وتنشئ بيت جديد بها فتعيش ذات الذكريات الجميلة التي عشتها في صباك؟!

صوت وضحكة وسواليف

ما تزال بعض الأصوات الشجية تشد حبال الذكرى وتجدد الحنين لأصحابها بمجرد تجديد السماع إليها. وهكذا أيضًا هي الضحكات المميزة لأنها تجدد ذكرى قلوب طاهرة. أما الحكايات والسواليف فهي حمالة دلالات مميزة. كل هذا الخليط يجعل الإنسان تلقائيًا يحن لأصحاب الأصوات والقهقهات والسواليف؛ إلا أن الواقع يقول لقد رحلوا فعن ماذا أنت تبحث؟

أنفس وقلوب

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) آية كريمة تختزل كتب في علم النفس والاجتماع وإدارة التغيير، ومفادها أن النفس هي المحور في شرارة إحداث الأفضل أو الأسوء. فقد يزور الإنسان مدينة عامرة بمبانٍ شاهقة تسمى ناطحات السحاب ولكن لاروح فيها وتصنع في السلوك أثرًا بارزًا وأخلاق تجارية؛ وقد يزور الإنسان مدينة صغيرة/ قرية جميلة وادعة تدب بها الحياة الاجتماعية منذ ساعات الصباح الأولى، والناس متفائلون وبسطاء وبشوشون وإن كانت جغرافيا المكان محصورة في واحة بقلب الصحراء أو على ساحل بحر بسيط أو قرية بين سفوح جبال أو على ضفاف نهر متدفق المياه.

الالفة تُزيل الكلفة

قد يكون البعض سمع مقولة باللاتينية تنص على أن familiarity breeds contempt وترجمتها أن الألفة تُزيل الكلفة. وعليه ينسج البعض رومانسية لكل ما هو ماض وينسج تشاؤومية لكل ما هو حاضر او مستقبل. بعد تآلف الأرواح بين النفوس البشرية بالعادة تتساقط حياة الكلفة والتكلف في التعامل. إلا أن وتيرة الحياة العصرية المتسارعة جعلت الكلفة والتكلف في كل شي جزء من منظومة الاجتماعات واللقاءات. أضف لذلك ظاهرة توثيق اللقاءات أو مأدبة طعام الطويلة ونشرها في السوشل ميديا بقصد أو دون قصد من التفاخر أجفلت البعض من الإقدام على هكذا لقاءات. أنصح من كل قلبي بضرورة حجب توثيق وتصوير الموائد بعد دخول الضيوف لقاعة الطعام.

هل سألت نفسك يومًا ما:

لماذا تحن لأماكن دون أماكن ولأشخاص دون أشخاص ؟! متى تحن للماضي؟!

الغالب الأعم يحنون للماضي لأنهم يعيشون الضغوط الحالية أو يقاسون الآلام المرحلية في حياتهم، أو يستحضرون لحظات عابرة مع شخص عزيز افتقدوه فيحنون لأيام انعدام المسؤولية وأيام الطفولة البريئة حيث اللعب واللهو والابتسامة العريضة والنوم الهادئ والجيران الطيبين واللقاءات الاسرية العديدة. فهل أنت ممن يحن لماضية ويستلهم القوة منه أكثر ممن يعيش يومه ويتفاءل بمستقبله!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى