أقلام

تعريف الحق بلسان الحق: سرّ الأسماء الإلهية في الآيات الأخيرة من سورة الحشر – الجزء الثاني 

د. حجي الزويد

إكمالًا للبحث المتقدم  في الجزء الأول حول الآيات الشريفة من سورة الحشر:

تعريف الحق بلسان الحق: سرّ الأسماء الإلهية في الآيات الأخيرة من سورة الحشر – الجزء الأول

﴿هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يُشرِكونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [الحشر: ٢٢-٢٤]

حين تنزل آيات الأسماء الإلهية في خواتيم سورة الحشر، فإنها لا تنزل لتُتلى بالألسن فحسب، بل لتُتشرّب بالقلوب وتُحيا بها الأرواح.

فهي ليست كلماتٍ تصف الإله، بل أنوارٌ تكشف وجه الحقيقة في مراتب الوجود، وتدعونا لأن نرى في كل اسمٍ مظهراً من مظاهر الجمال والجلال الإلهي.

لقد أولى العارفون بالله هذه الآيات عنايةً خاصة، لأنهم رأوا فيها سُلّم السالكين إلى مقام التوحيد، حيث يتحول الذكر إلى شهود، والمعنى إلى حضور.

ومن هؤلاء العارفين الذين أفاضوا على هذه الأسماء روح المعنى الإلهي، العارف الكامل آية الله العظمى الشيخ محمد علي شاه آبادي (رضوان الله عليه)، الذي بيّن أن الأسماء الحسنى ليست مفرداتٍ لغوية، بل مراتب من التجلي الإلهي في الوجود والإنسان.

وفيما يلي شرحٌ عرفاني لغوي للأسماء الإلهية الواردة في هذه الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحشر، يهدف إلى أن يربط التفسير بالذوق، والمعرفة بالمعايشة، والعقل بالقلب، حتى يعيش القارئ مع كل اسمٍ تجربة نورٍ وبصيرة، لا مجرد لفظٍ يُتلى.

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ:

هي الآية الجامعة للتوحيد الذاتي، فيها نفيٌ مطلق لكل شريكٍ أو وسيلة، وإثباتٌ للوجود الحق الواحد الأحد.

فيها إشارة إلى الفناء في الله؛ إذ لا يُرى في الوجود غيره، ولا يُقصد سواه، فهو الظاهر في كل شيء، والباطن عن كل إدراك. إنها كلمة التوحيد الكبرى التي بها بدأ الوجود وبها يُختم، فهي أصل الأسماء كلها.

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ:

هو سبحانه العالم بالباطن والظاهر، يعلم ما تخفي الصدور وما تجهر به الألسن. الغيب هنا هو ما وراء الحواس، والشهادة هي عالم الإدراك الظاهر، وفي البعد العرفاني، هو الاسم الذي يربّي في القلب حضور المراقبة الدائمة: أن الله يرى، وأن علمه محيط لا يغيب عنه شيء، ومن تخلّق بهذا الاسم، صار قلبه مرآةً للحق، لا يغيب عنه حضور الله في كل آن.

هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ:

الرحمن: فيضه الواسع الذي يشمل كل الموجودات.

الرحيم: رحمته الخاصة بأوليائه وعباده المؤمنين.

في لغة العرفان، الرحمن هو تجلّي الذات في الخلق، والرحيم هو تجلّي المحبة في القلوب. من ذاق الرحمة الإلهية في ذاته، صار رحيمًا بعباد الله، لأن الرحمة أصل كل معرفة وغاية كل سلوك.

الْمَلِكُ :

هو الذي يملك كل شيء ولا يُملك منه شيء، ملكًا حقيقيًا ذاتيًا لا يزول. العارف حين يذكر “الملك” يعلم أنه عبد في مُلك الله، فلا يطلب إلا من المالك الحق. إنه الاسم الذي يُعلّم النفس التجرّد من التملك والأنانية، حتى لا يرى الإنسان في يده شيئًا إلا وديعة من مولاه.

الْقُدُّوسُ :

هو الطاهر عن كل نقص، المنزّه عن كل مشابهة، المتعالي عن إدراك العقول. العارف إذا تلا هذا الاسم تطهّر باطنه من شوائب الغفلة والهوى. فـ”القدوس” هو نور التنزيه الذي يجعل القلب ساحة نقية لا يسكنها سوى الله. هو الجمال الخالص الذي لا تبلغه أوصاف المخلوقين.

السَّلَامُ :

هو الذي تفيض منه الطمأنينة والسلامة لكل شيء.

ومن تجلّياته أن من اتصل به سلِم من القلق والاضطراب، لأن السلام هو سكينة الوجود في حضرة الله. وفي العرفان، “السلام” هو مقام السكون في الرضا، حيث يرى العارف أن كل ما يأتي من الله هو سلامٌ ورحمة.

الْمُؤْمِنُ :

هو الذي يمنح الأمان لعباده ويؤمّنهم من الخوف.

وفي سرّ الاسم، هو الذي يُدخل النور إلى القلوب فيطمئن الإيمان فيها. العارف حين يذكر “المؤمن” يستشعر أن الله آمنه من ظلمة الجهل والكفر، وأنه مأوى كل خائف وتائه.

فهو الذي يفيض اليقين على القلوب.

الْمُهَيْمِنُ :

هو الرقيب، الشاهد على كل شيء، الحافظ له من الفناء.

في لسان العرفاء، “المهيمن” هو الذي يحكم الوجود بعلمه وإرادته، فلا يقع في الكون شيء إلا بإذنه.

العارف حين يستحضر هذا الاسم يعيش حالة المراقبة المستمرة لله، فلا يرى فعلًا إلا بعين “المهيمن”.

الْعَزِيزُ :

هو القوي الذي لا يُغلب، ولا يُنال مقامه، ولا يُدرك كنهه.

“العزيز” في العرفان هو كمال الغنى في الذات الإلهية، فلا يفتقر إلى شيء، ومن تخلّق به، تحرّر من ذلّ الخلق، وعزّ بالحق وحده.

الْجَبَّارُ :

هو الذي يُجبر كسر المخلوقات، ويقهر الطغاة بسلطانه.

الناس تخاف “الجبروت”، لكن العارف يراه جبروت الرحمة الذي يُصلح ما انكسر في الروح، ويعيدها إلى كمالها.

فهو القهر الممزوج بالحنان، والجلال المتّحد بالجمال.

الْمُتَكَبِّرُ :

هو المتعالي عن صفات النقص، لا كبرياء كبرٍ، بل كبرياء الكمال المطلق، فالكبر في حقّ الله مجدٌ وجلال، وفي حقّ الإنسان شركٌ وضلال. العارف حين يلهج بهذا الاسم يتطهّر من كل عجبٍ بنفسه، لأن الكبرياء لله وحده.

الْخَالِقُ :

هو الذي أوجد الأشياء من العدم على وفق الحكمة.

وفي لسان العارفين، “الخلق” هو تجلّي المشيئة الإلهية في صور الوجود، فما من ذرة إلا وهي أثر من آثار “كن فيكون”.

العارف يرى الخلق لا ككثرة منفصلة، بل كـ “أنفاس الرحمن” في كل شيء.

الْبَارِئُ :

هو الذي أبدع المخلوقات على تنوّع صورها وعددها دون مثال سابق. البَرء هو الخلق المتقن المنسّق، وهو مرحلة الجمال بعد الوجود. وفي لسان القلوب، “البارئ” هو الذي يفتح في النفس آفاق الإبداع، لأن كل إبداع بشري ظلّ من إبداعه سبحانه.

الْمُصَوِّرُ :

هو الذي أعطى لكل شيء صورته الخاصة وهيئته المميّزة.

هو الذي صوّر الجنين في رحم أمه، وصوّر القلوب بأحوالها.

وفي العرفان، “المصوّر” هو الاسم الذي يذكّر العبد بأن كل جمالٍ في الوجود هو مظهر من مظاهر الجمال الإلهي.

لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى:

أي له وحده الصفات العليا التي تدل على الكمال المطلق. الأسماء الحسنى ليست كلمات تُتلى فقط، بل مقامات وجودية يتجلّى الله بها على عباده.

من عرف أسماء الله حقّ المعرفة، عرف الله في تجلياته في الكون والنفس.

يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ :

كل ذرةٍ في الكون تسبّح بحمده، لا تسبيح اللفظ، بل تسبيح الوجود ذاته، لأن كل شيء قائم به وناطق به. وفي العرفان، الوجود كله كلمة تسبيحٍ واحدة تتردّد بين الوجود والفناء.

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:

العزيز في قدرته، الحكيم في فعله، لا يخلق عبثًا، ولا يترك أمرًا سُدى. هو الجامع بين القدرة المطلقة والحكمة المطلقة، فإذا تجلّى للعارف، رأى أن كل شيء في الوجود قائم على ميزانٍ دقيق من العدل والرحمة.

خاتمة عرفانية:

إن تأمل هذه الأسماء الإلهية كما أوصى الشيخ شاه آبادي ليس علمًا نظريًا، بل تذوّق روحي يفتح العين الباطنة على حضرة الله في كل شيء؛ فمن داوم على تلاوتها حتى صارت ملكة في قلبه، صار يعرف ربه بـ لسان الحق لا بلسان الخلق،وحين يُسأل في قبره: من ربك؟

ينطق بها لا عن حفظٍ، بل عن شهودٍ ومعرفةٍ ووصال:

﴿هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يُشرِكونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى