
السيد فاضل آل درويش
كيف يمكن للإنسان أن ينشيء الكواشف المعرفية بباطنه وأعماقه؛ ليسبر أغوار الذات البشرية وما تحمله من نقاط قوة وضعف وتأثيرها على تفاعلها مع العوامل والظروف الحياتية؟
المراحل المختلفة التي يقطعها ما بين فيافي و تعرجات القطع الزمنية وعواصفها وعواطبها، وظهور تأثيراتها عليه من قوة وتماسك وصبر وتكيف مع الآلام أو بروز لحظة انكشاف ونزف نفسي وبدء رحلة خوار القُوى والضياع عي مساحة عمره الزمنية، ولعل من أكثر اللحظات قدرة على إعادة صياغة رؤيتنا للعالم هي تلك التي نشعر فيها بالحزن والانهزام وتبخّر الأحلام الزائفة والأهداف ذات السقوف العالية، فرغم ثقل التجربة تحمل هذه اللحظات بذور معرفة جديدة وتفتح أمامنا أبوابًا لفهم أعمق لمعنى أن تكون إنسانا يمكنه أن يعيد جدولة ولملمة أوراقه من جديد.
إنّ الوعي الإنساني لا ينمو في الفراغ وبلا أثمان، بل ينمو كلّما احتكّت الروح بتجارب الحياة وكلما اختبرت حدودها وهشاشتها، حين يشعر المرء بأنّه ينهار فإن هذا الشعور ذاته يجعل بنيته الداخلية أكثر قدرة على التمييز بين ما هو عابر وما هو جوهري، فالحزن – على قسوته – يعلّمنا الإصغاء لأنفسنا والانتباه لما نغفله عنه في زحمة الأيام، ويمنحنا فرصة لإعادة ترتيب علاقتنا بذواتنا وبالعالم من حولنا وعلاقاتنا.
كما يمكن للفرد استعادة مساحة واسعة من الوعي والإدراك والتحرّر من الغفلة في لحظات الضعف والمرور بالأزمات وما يصاحبها من آلام ومتاعب، فيعيد النظر في بعض طرق تفكيره أو اختياره أو قراره والعمل بجدية على استعادة توازنه الفكري والوجداني والانطلاق مجددًا في ميادين العمل المثابر، فكيان النفس المعطاءة بعد تعرّضه لحالة هدم أو إصابة يحتاج إلى عملية إصلاح وترميم، وبالطبع فإن الأمر ينطوي على امتلاك إرادة التغيير وشجاعة في إعادة النظر بأوجه التقصير وتلافيها مستقبلًا، فالتجارب تكشف لنا أننا لسنا كائنات مكتملة البناء بل عملية التكامل مستمرة في التشكّل، ولا يكتمل نضجها إلا حين نمرّ بكل أطياف المشاعر الإنسانية من أقصاها إلى أقصاها ومن محطة ألم وتجربة عاصفة إلى أخرى، نستخلص منها الدروس التي تُنير المستقبل بروح الصبر والمثابرة والجدية، فمدرسة الحياة تعلمنا مع تقادم الأيام أن الإخفاق والاختيار غير الصائب لا يمثل نهاية الطريق، بل هو محطة فاصلة تسبق تغيرًا نحو الأفضل إن استوعبنا الدرس وتلافينا الأخطاء، ففي كل أزمة فرصة ونتعلّم أن ما نمرّ به ليس عبثًا بل هو تراكم يُسهم في بناء حكمة أكثر عمقًا ومحطات تبني ذاتًا إنسانية تتكامل جنباتها، فالإنسان كائن يتعلّم من عثراته وينهض مجددًا من سقوطه ويواصل السير نحو ذاته الأكثر صدقًا ونضجًا.
المحطات الصعبة واللحظات المظلمة تبدو في ظاهرها عبئًا ثقيلًا يصعب احتماله إلا أنّها كثيرا ما تحمل في باطنها بذور المعرفة وعوامل النمو والازدهار والتقدّم، فحتى في أشدّ الأوقات التي ينتاب فيها المرء إحساس بالحزن أو الهزيمة يظلّ هناك وميض داخلي يذكّره بأن ما يمرّ به ليس عبثًا.




