
رباب حسين النمر
في مقابلة عنيفة حدثت بين القصة والشعر خلال حديث القاص جعفر عمران، ضمن فعاليات الشريك الأدبي في مقهى كوب كتاب بالمبرز مساء الجمعة المنصرم قرر عمران أن القصة من أصعب الفنون الكتابية، عبر جلسة ثقافية حوارية عنوانها (هل القصة فعلًا قصيرة؟ ).
بدأ الجلسة الحوارية مديرها القاص هاني الحجي بتقديم السيرة الذاتية لضيفه فقال: (جعفر عمران معلم لغة عربية، وصحافي مستقل بموجب وثيقة العمل الحر، يشارك في مشروع الكتب الفاخرة في هيئة التراث السعودي لتحرير السياق والمراجعة، ومشارك في كتابة مسلسل خيوط المعازيب، ورئيس ورشة النص، وكاتب سيناريو وأفلام وثائقية. قدم عددًا من الورش والدورات في الصحافة والسيناريو. لديه مجموعة من المؤلفات أبرزها سالفة طويهر مجموعة قصصية، ذاكرة المكان، أنا الإعلامي أنا الإعلامية، رواية مخطوطة، اليأس يشرب سفن آب، وساهم في إعداد كتاب (إبراهيم الحساوي من مسرح القريةإلى الشاشة العالمية)، وهو صحافي متعاون في عدد من الصحف المحلية وجريدة الحياة، وهو عضو ومؤسس في نادي أصدقاء السرد).
وشرع عمران في حديثه بعد شكر مقهى كوب كتاب ومعدي الجلسة على جهودهم في دعم البرامج الثقافية ودعم الكتاب وإضافة أسماء جديدة للمشهد الثقافي، بسؤال جاذب:
هل القصة فعلًا قصيرة كما يقال دائمًا؟
وقال عمران في معرض إجابته حول طول القصة، ومقارنتها بالرواية: “ربما جعلها هذا الوصف في حيز معين كل تلك السنوات، فالبعض يذهب لكلمة قصيرة كصفة دائمة أنها ستظل قصيرة، ولكن من خلال تجربتي اكتشفت أن القصة أصعب الفنون، والعام الماضي كتبت عن مجموعة القاص أحمد العليو (غواية المساء) ووجدت أنه من الصعب أن تكتب عن مجموعة قصصية، ففي الرواية تستطيع أن تكتب عن شخصية واحدة ممتدة لمائتي أو ثلاثمائة صفحة، وبطل واحد يتطور، ولكن أن تكتب عن قصص كثيرة وعن شخصيات كثيرة داخل المجموعة، وأحداث وإيقاعات مختلفة في كل قصة. فالكتابة عن القصة أصعب من الكتابة عن الرواية بكثير، وأرى أن من يريد أن يكتب رواية عليه بقراءة القصص أولًا، ونلاحظ كثير من تجارب بعض الروائيين قبل الطباعة عندما أراجعها أن يقول الكاتب بأنه تخلص من خمسين صفحة، أو ثمانين صفحة، لأن فيها ثرثرة كثيرة لا تضيف وقد تفسد، مثل برهان بابوك الكاتب التركي (في متحف البراءة) كتب ٧٠٠ صفحة، منها ٩٠ صفحة في النهاية لا داعي لها، فأحيانًا الكاتب تأخذ به شهوة الكتابة، واللغة غواية تأخذه في مفاتنها وعليك أن تسيطر على الشخصية وإلا فالكتابة لا تنتهي.القصة تعلمك أن كل كلمة مقصودة، وكيف تكون كل كلمة محسوبة عليك، ومن الممكن أن تكون كلمة هي الميزان، أو هي الفارق حتى في داخل القصة بأكملها.”
ثم قارن عمران بين القصة والشعر من حيث كثافة الحضور في الأمسيات: ” عند توقيع ديوان الشاعر إبراهيم الدريس، كانت الأمسية الشعرية مزدحمة بالجمهور، بينما الأمسيات القصصية حضورها قليل بعدد الأصابع. فعلى مدى السنوات لم تستطع القصة أن تكون مثل القصيدة، وكتبت التأملات وأنا في تلك الأمسية) ليقرر أن سبب وجود القصة القصيرة في الظل صعوبة كتابتها وصعوبة الاستماع إليها (لأن ذائقة المجتمع العربي شعرية ذات إيقاع، والأفضل أن يكون موضوعها الغزل للذين يحرصون على حضور الأمسيات الشعرية، وليس بالضرورة أن يفهموا كل بيت في القصيدة).
طرح عمران تساؤلًا عن وجود القاص في نصه القصصي فقال: ” في المجموعة القصصية وفي القصص أين تعثر على القاص؟ في أي قصة وفي أي جملة؟ إنه متوار في كل القصص، ومبعثر لا يمكن القبض عليه، ولا العثور عليه من خلف زجاج شخصياته، إنه متعدد وكثير ومتفلت، هارب ومتخف في كل القصص، القصة القصيرة بعدد كلماتها، ولكن ماذا عن تلك الكلمات التي تجعل الشخصية تسكن في ذهنك وذاكرتك لسنوات طويلة كما عند القاص يوسف إدريس والقاص إبراهيم أصلان وبورخيس وجار الله والحميد وعبد العزيز مشري، وفهد المصبح، وأحمد العليو، وطاهر الزارعي، وهاني الحجي، وإبراهيم الطويل. جاء بول ريكور وهو منظم للسرد وكاتب مهم جدًّا ليقول إن متابعة القصة عملية معقدة جدًّا، وتقودها توقعاتنا حول نتيجة القصة فهل تتوافق مع الخاتمة؟”
ويتابع عمران التساؤل حول الحبكة، ومنها لعقد مقارنات بين الشعر والقصة: “ويتساءل ريكور ما هي الحبكة؟ إنها تركيب عناصر متناثرة ويسميها (تركيب المتنافرات)، ويرى أن عملية التركيب أو الصياغة لا تكتمل في النص وحده بل لدى القارئ، وأن معنى السرد تنبثق من التفاعل بين عالم النص وعالم القارئ، ولا يتردد في القول بأن كل قصة مبنية بناء محكمًا تعلمنا شيئًا، عالم القصة القصيرة الضاج بالشخصيات الصاخب بالأحداث العالم القنوع المتواري عن أنظار الساحة الثقافية وعالم المثقفين وعن كشافات الشهرة واللمعان، حيث القاص يسير بهدوء خافض صوته عيونه محدقة في الفضاء يعيش في الحياة متفرجًا ينصت بإخلاص وتركيز على إلى همس المتعبين وإلى زمرة القساة الطاغين، الشاعر حاضر في الحياة، بينما القاص يختفي فيها، مشغول باصطياد الأحياء ليسجنهم في قصصه، يحول الأحياء إلى شخصيات يفككها ثم يعيد تشكيلها ويعيد صناعتها حسب رؤيته يبث فيهم إيقاعه، يبطئ إيقاعهم أو يسرعهم، إنه يعدل عليهم، إنه يعيد قراءة الحياة التي يطاردها الشاعر، والشاعر يدعوها إلى قصيدته الذي يجعلها تتمدد في بيت شعري، ويتركها تركض في قصيدته، إنه قناص اللحظة، لحظته الخاصة، يدعوها إلى مختبره، إلى قصيدته، بينما القاص لا يقتنص بل يصطاد فريسته يكمن لها في الشارع وفي السوق وفي المجلس وفي حركته وسكونه وكلامه وصمته وغضبه، بينما الشاعر يبتعد عن الغضوب والمتحرر، والمتعجل، الشاعر يقتنص الساكن والمتهادي مثل النهر، والمتماوج مثل البحر، والفاتن مثل زهرة، يرى الإحساس العميق للحياة الشاعر يتأمل النهر بينما القاص يسبح فيه، والشاعر يستمع إلى البحر، والقاص يغوص في أعماقه، الشاعر يغازل المرأة ويشتهيها بينما القاص يراها ويكتبها ويرصد انفعالاتها، الشاعر يتكلم بينما القاص يلوذ بالصمت، هل يستطيع الشاعر أن ينتقد القصيدة العمودية أو أن يكون محايدًا حين يقرأ ديوانًا شعريًا؟ أم أنه يخاف على القصيدة أن تبكي أو تنكسر أو ترتعش؟ هل يستطيع الشاعر أن يكون ناقدًا؟ أو أن يكون حتى محايدًا حين يكتب عن ديوان شعري لصديقه؟ أم أن لغته ليست ناقدة؟ أم أنه فقط يمدح ويشكر ويبارك كطبيعة شعرية؟ ويثني ويلمّع؟ إنه السياق لحكايات تدشين الدواوين الشعرية وأيضًا حفلات التكريم، الشاعر غاوٍ وكاذب، والقاص حقيقي وصادق، هل يستطيع الشاعر أن يستمع لقصة حتى النهاية؟ هل تركيبته النفسية تستطيع أن تتابع القصة أم أن إيقاعه متعود فقط على الإيقاع؟ … لقد اكتشفت أن القصة من أصعب الفنون، ولذا فإن القصة في أيام الثمانينات لما وعينا على جريدة اليوم وتلك الأسماء كان للقصة حضور في الصحف والمجلات والجرائد، بينما الرواية السعودية بشكل خاص لم تكن موجودة، ولذلك كانت أسماء القاصين لامعين وحاضرين ومعروفين في المشهد الثقافي. ولما نتكلم الآن بعد ثلاثين سنة نرى أن القصة لا تزال كما هي ودائما أتساءل لماذا؟بينما مع التحول الثقافي في المملكة منذ بنات الرياض وبدأ الباب ينفتح للكل، ففلان أصدر رواية، ونتفاجأ الإن في الساحة براوٍ جديد على الساحة الثقافية، إلا أنه يستطيع أن يكتب رواية، ولكن لم نقف على أحد كتب فجأة مجموعة قصصية، إلا عندما يكون لديه تجارب وتجارب، ويحضر أمسيات قصصية، فالقصة من أصعب الفنون وتظل خاصة لا يمكن لأي شخص أن يقترب منها أبدًا، لأن كل كلمة ستفضحه إذا لم يكن متمكنًا من السرد والصياغة واللغة ويعرف كيف يختار الكلمة المناسبة لهذه الجملة، بينما العالم الروائي يفتح أمامك مجالًا واسعًا للثرثرة والكلام ولسماع الشخصيات وللتنطيط، ونحن كقراء رواية نغض الطرف عن أشياء كثيرة في الرواية، بينما لا نستطيع ذلك في القصة، فمتى ما أفلتت منك الشخصية أو الحدث فلن تستطيع الإكمال.المقارنة بين القصة والشعر”.
وداخل الحجي في الحوار بقوله: “أصبحت القصة القصيرة فنًّا نخبويًّا في الأمسيات أو في الكتابة، ومن صمد في كتابة القصة القصيرة هم الكتاب الذين يؤمنون بهذا الفن فعلًا، ولم ينزلقوا للابن غير الشرعي إن صح التعبير وهو (ق ق ج)، التي أصبحت لدى الكثير تمثل حالة استسهال، ولم ينضج هذا الفن حتى يعرف جنسه هل هو قصة قصيرة جدًا، أو قصيدة قصيرة جدًا، أو قصة ومضة، تكررت المسميات حوله حتى نجد تداخلًا بين بين (ق ق ج) القصة القصيرة جدًّا والقصيدة القصيرة جدًا، حتى أن الشاعر الكبير عبد الله السفر بدأ يكتب قصص قصيرة جدًا ثم حولها إلى قصيدة قصيرة جدًا، وصار الجمهور يطلب القصيدة أكثر من القصة، وظلت القصة القصيرة نخبوية وهي الفن الأكثر نضجًا بين الكتابات السردية حتى لو قورنت بالقصيدة النثرية، ولذلك كثير من الكتابات النثرية الآن تستطيع تصنيفها على أنها قصة قصيرة جدًا، وهي جميلة ورائعة، وكثير من كتاب القصة بدؤوا يكتبون القصة القصيرة بلغة شعرية، وهذا يعد من عيوب القصة، حيث التداخل بين الأجناس والفنون” وعلق عمران بقوله: “مسألة القصة (ق ق ج) واختصارها كأنما هناك عجز في اللغة، ويصنف بعضها على أنه خواطر وفي ذلك نقيصة، والبعض من الممكن أن يبدع فيها، ولكنها غير قادرة على أن تبقى طول الزمن. قد تبقى فترة زمنية قصيرة، ثم تنسحب وليس لديها القدرة على الصمود، والمسألة ليست مسألة تصنيفات”. ويضيف الحجي:” في المغرب العربي هناك إبداع في (ق ق ج) فهناك أسماء برزت فيها كفن ناضج وكانت فعلا قصة الطلقة التي تصل إليك بالدهشة، وقد حصلت عندنا كثير من الكتابات التي ما تزال غير ناضجة، وفي إطار التجريب وربما الاستسهال، فرواية بنات الرياض على سبيل المثال صدرت في فترة عاشت فيها المرأة وهي تمر بمرحلة قمع ذكوري خطير لدرجة أنها أصبحت تمارس العنف اللفظي ضد الرجل من خلال الرواية، وقد طبعت دار جداول دراسة عن المجتمع السعودي ومفادها أن المرأة أصبحت تتنفس ضد الرجل في الرواية بسبب القمع، ولذلك بنات الرياض قرأها الجيل الجديد وترجمت إلى عشرات اللغات العالمية، لأن المرأة السعودية كانت موضوع العالم في تلك الفترة والكاتبة لعبت على هذا الوتر، وهذه الأسباب التي ساعدت على انتشار الرواية عن طريق بوابة المرأة والثرثرة النسائية أكثر من كونها ذات نضج فني أو إبداعي، وكان أحد الناشرين الصينيين في أحد المهرجانات بالمملكة، كان يريد ترجمة عدة أعمال تتعلق ببنات الرياض، فأخبرته عن أعمال أكثر نصجًا، مثل عبده خال وتساءلت لماذا لا تترجمون له؟ فقال: (إن المجتمع الصيني يريد أن يقرأ عن المرأة السعودية المتشحة بالسواد) فقد كانت تشكل لهم هاجسًا، وبالتالي اشتغلوا على هذا الجانب كتلقي اجتماعي للرواية السعودية أكثر من جانب النضج الفني. وفي مثال آخر: استضافت وزارة الإعلام قبل عدة أعوام عددًا من الإعلاميين للكتابة عن السعودية، وهناك من كتب عن التطور الاقتصادي، والنهضة العمرانية، وقد تناقلت وكالة الأنباء قصة واحدة وترجمتها وهي أنه ذهب صحافي أجنبي إلى أسواق المعيقلية ووقف في المواقف فرأى شابًا يرقم فتاة بقصاصة ورق، وقد صنع منها قصة صحافية وانتشرت، هكذا الشباب السعودي يتعرفون على النساء ولا توجد بينهم أماكن يلتقون فيها، وتنشأ العلاقات بينهم، فجعل منها قصة وهي التي تداولتها وكالات الأنباء أكثر مما تداولت عن التربية وعن الاقتصاد لأن الناس تبحث عن الجانب المغلق أكثر).
وداخل أحدهم بسؤال وجهه للضيف: “يقودني هذا الطرح إلى سؤال ملح: هل لغة القصة هي اللغة الناقدة في مقابل أن الشعر احتفائي؟ هل القصة في مجملها ناقدة، حيث يتفق الشعراء على أن اللغة السائدة في الشعر هي لغة الاحتفاء؟ ” فأجابه عمران: (القصة تتناول مظهرًا اجتماعيًّا موجودًا يتم تناوله بشكل أسهل، بخلاف الشعر فهو ليس احتفائي دائمًا، ولكن أحيانًا لما نتكلم عن شعراء الأحساء على سبيل المثال، فإن الفرصة متاحة للقصيدة العمودية بشكل تاريخي ربما لا يتكرر، ولكننا محتاجون إلى قراءات. وإلى كتابة التجربة من الداخل، ومع إصدار الدواوين الكثيرة نحتاج إلى كتابات من الشعراء من أناس يكونون أقرب الى الساحة ولا نحتاج إلى نبرة تحول الأمسيات الثقافية إلى اجتماعية أكثر منها ثقافية، وأنا أحرص على شراء بعض الدواوين، وعندما أسمع عنها في الأمسيات أجد فاصلًا كبيرًا بينها وبين ما قرأته في الديوان، فدائمًا يقال شاعر كبير وقصيدة عصماء، ولو كتبت خلاف ذلك فكأنما تكون أنت ضد كل ما قيل وضد هذه النظرة، وأنا من حقي أن أطرح رأيي في المستوى الفني للشاعر، فهذه مشكلة ثقافية. أما القصة فلغتها ناقدة لأشياء كثيرة في المجتمع، وتهب الكاتب مساحة لينتقد نقدًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا، وأن تمرر كل ذلك بشكل أدبي، ولكن دون تجريح”.
وقال الشاعر جاسم عساكر في مداخلته مدافعًا عن الشعر: (هل القصة فعلًا قصيرة؟ هذا الاختيار اختيار شاعر وليس اختيار قاص ولذلك فإن القاص جعفر في مقارنته لا أعلم لماذا أسقط بعض التساؤلات على الشاعر، مثلًا: هل يستطيع الشاعر أن يستمع إلى قصة كاملة، لماذا لم يقل هل يستطيع المتلقي مثلًا، أو هل يستطيع القاص أن يستمع إلى قصيدة كاملة أو يحضر أمسية كاملة. وما ذكره من أن القصة قادرة على النقد الاجتماعي وسواه أيضا القصيدة قادرة على فعل ذلك، والمقارنات التي عقدها ما بين القصيدة والقصة هي في منتهى الروعة، ولكنها في مجملها مقارنات رومانسية، ولو عدنا إلى الواقع سنجد القصيدة لها جذور في وجدان الأدب العربي والثقافي أقدم من وجود القصة كما أتصور”. وأضاف عساكر: ” نحن أمة تميل إلى الاستماع لما يطربنا، وفي القصيدة نوع من الطرب وتمتاز بسهولة التلقي، ولذلك عند استدعاء حضور أية شخصية اعتبارية أو رسمية دائمًا يدعى شاعر لإلقاء قصيدة، وكذلك في المدرسة، أو في مناسبة معينة أو في الأيام العالمية دائمًا يدعى الشاعر للتعبير، لأن المنصات احتفت بالقصيدة بشكل أكبر مما كرس حضورها ووجودها أكثر من القصة”.
ثم وجه عساكر سؤالًا للضيف: (كيف يمكن لقصة قصيرة جدا أن تخلق دهشة كبيرة جدا؟) فأجاب عمران: (أعتقد أنه من خلال اللغة، وكثير منا تطرأ على باله أفكار ولكن هل يستطيع أن يحول هذه الفكرة إلى شيء بسيط ومفهوم، وكثير منا يكتب، والشعراء أيضًا كثر ولكن كم واحد يستطيع أن يستوقفك، وداخل القصيدة الواحدة كم بيت يستطيع أن يلفت نظرك ويكون فيه إضافة؟ القصة القصيرة تدهشك في حالة كون الفكرة جديدة مثل عبدالله ناصر (العالم في يوم أحد) حيث تميز بجدة الأفكار (مجمل الفكرة أنه استيقظ في يوم الأحد، ولم يتخطاه إلى يوم الاثنين، وبدأت الأيام تسير إلى الاثنين والثلاثاء، وهو عالق بيوم الأحد) كانت الفكرة رائعة ويعقب (الحمد لله أني لم أعلق في يوم الجمعة)، الفكرة أولًا وكيف تعالجها، وكلما أصبحت لديك لغة جيدة استطعت أن تقبض على الفكرة وتتحكم بها).
وعلق الحجي على طرح عساكر متحيزًا للقصة: (لقد نشأنا جميعنا على حكايات الجدات واعتدنا سماعها، وكذلك لو رجعنا للقرآن الكريم فقد استعان بالقصة القصيرة، قصة يوسف وقصةموسى عليهما السلام على سبيل المثال ( وعصى آدم ربه فغوى) قصة قصيرة جدًّا في رأي أحد النقاد، حتى الوجدان السردي موجود لدينا وليس فقط الشعري، فهل السرد متأخر في العالم العربي والإنسان العربي تربى على الذائقة السردية، ولكن ربما الآن تطور التقنيات جعل الكتابة السردية هي الفن الناضج. أحدهم أراد الانتحار وعندما قرر ذلك رمى نفسه من فوق البناية وكان يرى الشقق وهو يهوي ووصل لقناعة أنه لا يريد أن ينتحر، وأحب الحياة، ولكنه سقط.) لقد عبر الكاتب عنها في أربعة أسطر، وهناك قصة قصيرة جدًّا لكاتب عالمي قال: حذاء طفل للبيع لم يستعمل. تعبيرًا عن طفل ولد ميتًا. واستطاع التعبير عن مشاعر إنسانية في قصة محدودة، وبالتالي فالقصة القصيرة جدًّا فن ناضج لا يمكن إجادته إلا بتمرس، مثل القصة القصيرة التي تحتاج لمراس بخلاف الرواية التي تتيح لكاتبها السرد والكتابة والثرثرة، القصة القصيرة جدا والقصيدة القصيرة جدا تداخلتا كأجناس أدبية. عبد الله السفر أستطاع أن يكتبها كقاص وكشاعر، وكثير من شعراء المعلقة دخلت في نصوص القصيدة النثرية لديهم قصص مكتملة وناضجة أكثر منها شعرية، وكثير من القصص تقرأها فتجدها نصوصًا شعرية).
وعلق القاص إبراهيم الطويل فقال: (اللغة هي التي تستطيع التحكم في الفكرة، فتتمدد كثيرًا أو تتقلص كثيرًا، فكلما كان الكاتب يمتلك مفردات عالية جدًّا استطاع أن يتحكم في الفكرة).
وأضاف الحجي سؤالًا: (كتب حسين الفقيه قبل فترة عن سارة الزيد. قال: (هم يحتفون بها كامرأة أكثر منها كشاعرة، ويحتفلون بإلقائها أكثر من شاعريتها) ونقدها نقدًا لاذعًا في قصائدها، ألا ترى أن الشعراء يحتفون بالمرأة كامرأة أكثر منها شاعرة؟ حتى لو ألقت قصيدة ركيكة جدًّا، يحتفى بها كامرأة؟) فأجاب عمران: (أعتقد أن وجود الشاعر في الحياة مختلف تمامًا عن الآخرين، فالقاص يتفرج على الحياة، ومتخفٍّ عنها، ومتوارٍ، والشاعر حاضر في القصيدة وفي الحياة فهو غالبًا ما يتكلم عن نفسه، ولذلك فنظرة الشاعر للمرأة نظرة مختلفة تمامًا، لأن الشاعر لا يجرح أحدًا، بل هو محب للمرأة ولا يراها مجرد جسد، بل يعدها شيئًا عميقًا، كوردة أو عطر أو بحر، وهو في الحياة وليس على مستوى عالم الأمسيات نظرته مختلفة تجاهها. وأنا لست ضد التكريمات أو الاحتفاءات، بل هي حالة اجتماعية موجودة لا يمكن للإنسان أن يتخطاها، ولذا فأرى أن الشاعر يحتاج إلى الشاعر الآخر الذي لا يبالغ في مدحه لدرجة أنك تشكك في مقدرة الشاعر، وتنصدم لما تقرأ ديوانه، ولكن هل يستطيع الشاعر نقد الشاعر أم لا يتجرأ على القصيدة؟ . الفرق بين الرواية والقصة، كتابة الرواية مثل المتسابق في الماراثون، أما كاتب القصة فمتسابق في ٤٠٠ متر، فكل كلمة محسوبة عليه).
وداخل عبدالله المعيبد بقوله: “بالنسبة للاحتفاء أنا أقبل به في الحالة الأولى، حالة التوقيع والديوان والانتشار، أي حالة الأمسية، ولكن الناقد يأتي بعد التجربة، وهنا يجب التجرد عند تناول الديوان. وهذه الحالة يجب أن تترسخ”.
وداخل القاص أحمد العليو: “بالنسبة للقصة والشعر ولماذا حضور الشعر أكثر كثافة؟ أقول: في الشعر عمق تاريخي، وقد ارتبط وجود الشاعر بالأحوال الاجتماعية والسياسية، ونجد الشاعر في زمن ما يستطيع أن يرفع من منزلة إنسان ويخفض منزلة آخر، وهو حاضر في مناطق الحكام، ولديه قناة إعلامية قوية، ففي الشعر عنصر تاريخي قديم، أما بالنسبة للقصة الحالية والحديثة: فنحن نحب سماع القصص في السير الشعبية والحكايات ولكن كفن قديم لم يزل يفتقد العمق الذي كعمق الشعر، الشعر يستخدم العاطفة ويستطيع الشاعر أن ينتقل من موضوع إلى موضوع، ولديه مساحة أرحب، بينما القاص لديه مساحة محدودة، ولا تزال فنًّا حديثّا، وحول القصة القصيرة جدا، مشكلتها أن الكتاب ربطوها بعدد الكلمات وهذا قد يجهض الحدث، وقد يجهض الفكرة فالمفهوم الخاطئ أن القصة القصيرة جدًّا تعني الحذف والاختصار هذا يخل بجمالية القصة ولذلك نرى بعض القصص القصيرة جدا تمتد لأكثر من صفحة، إلى صفحتين أو ثلاث صفحات، ومحليًا هناك لبس أو سوء تنظير لبعض الكتاب، ولذلك نرى أن موجة القصة القصيرة جدًّا أصبحت كبرى قبل سنوات قليلة، والنتاج الأدبي كان مكثفًا، وبدأت الآن تتوارى قليلًا، وإصدارات القصة القصيرة جدًّا بدأت تقل”.
وفي ختام الجلسة الحوارية قدم مديرها الحجي شهادة تقدير لضيفه القاص جعفر عمران والتقطت الصور التذكارية.






