
عماد آل عبيدان
نون النسوة، تلك العلامة الصغيرة التي تتدلى من آخر الأفعال، والتي تشبه يدًا مرفوعة تريد أن تقول شيئًا أكبر من وزنها النحوي. هذه النون نفس جماعي يخرج من صدورٍ حاولت طويلًا أن تخفي ما بها ثم قالت: «كفى».
لا أدخل هذا النص من باب المرافعات ولا من بوابة التغني بصورة نمطية فأنا أدخل إليه كما يدخل إنسان إلى بيت يعرف أنّ داخله قصصًا مخبأة خلف أبواب لا تفتح بسهولة.
نون النسوة عندنا همٌّ معقود على قلوب تتعلم كل يوم كيف تقف وهمٌّ أكبر من أن يختصر في «هنّ» على سبورة المدرسة.
نون تُكتب في دفتر المدرسة والكتب والمجلات، وتتكرر في عقود العمل وعلى لافتات المستشفيات وفي رسائل الواتساب التي تنتهي بضحكة تخفي خلفها جبالًا من الإرهاق والتعب.
نون تبدو من بعيد كأنّها لا تعني شيئًا للبعض ربما! ولكنها قادرة على أن تغير مسار بيت كامل إذا أرادت.
لا تظن أو تعتقد أنّ النسوة هنا موضوع اجتماعيّ نتباحثه أو ندرسه… إنّهنّ حرارة البيت وفوضاه الجميلة والسفرة التي لا تستقيم من دون همسهن ولمستهن.
كل رجل يظن أنه قائد مركب حياته ثم يكتشف في منتصف الطريق أنّ الدفة تميل مع كلمة من زوجته أو بسمة من أمّه أو استقامة طيبة من أخته أو سؤال ملقى دون انتظار جواب من ابنته:
«ليش؟»
هذا السؤال وحده قادر على إسقاط حكومات داخلية في الأسرة وتغيير خطط يوم كامل في حياتنا اليوميّة.
نون النسوة لا تتصارع مع أحد فهي نسم يعلمك كيف تكون إنسانًا أفضل.
هي التي تدفعك لخلع عادات كنت تظنها جزءًا منك فتغيّرك عندما تكتشف أنها مجرد عادة أو فعل قديم يحتاج إلى إعادة نظر وتشذيب.
وهي التي تعيد تدوير مفاهيمك بمهارة خبيرة في ترتيب البيوت: لا تكسر شيئًا هي تغيّر مكانه فقط… وفجأة يظهر الجمال.
كثير من رجال هذا الزمن مع كامل الاحترام والتقدير لهم يتحدّثون بثقة عالية ثم يتهدج صوتهم عندما تدخل إمرأة يعرفون جيدًا أنها ترى ما وراء العبارة.
النساء عندنا يمتلكن قدرة فريدة على قراءة ما لا يُكتب ووزن ما لا يُقال وتفكيك ما يلفه الرجال بالجدية المبالغ فيها.
قد تظنها موهبة ثم تدرك أنها تمرين يومي اكتسبنه من التجارب المتتالية.
هناك شيء طريف:
في أي مجلس إذا أراد أحدهم إثبات حجته يرفع رأسه وعينه وربما صوته.
أمّا إذا أرادت إحدى النسوة فعل ذلك فهي لا ترفع شيئًا وتكتفي بنظرة قصيرة تجعل صاحب الحجة يبحث عن حجة أخرى.
ومع هذه القوة الهادئة تمتلك نون النسوة قدرة بديعة على نثر الحياة في التفاصيل.
لا يعرف الرجال كيف تتبدل الأجواء في المنزل بسبب فازة «مزهرية» صغيرة تغيرت زاوية ميلها.
ولا يفهمون كيف تتحول أجواء النهار كله بكلمة خفيفة يلقينها عند باب المطبخ.
نون النسوة تكتب توازن البيت وتمنح العلاقة نكهتها التي لا تباع في نكهات الأسواق والبقالات.
ولنكن صريحين:
نون النسوة ليست في صورة ملاك ناعم طوال الوقت فأحيانًا تتحول إلى بركان مكتوم يشتغل بهدوء ثم يقرر فجأة أن يقول: «كفاية».
عندها تبدأ معارك صغيرة غير أنّها تربي فينا كثيرًا من النضج وتنقي الهواء من شوائب كان من المفترض أن تختفي منذ زمن.
نون النسوة تصنع الرجال الحقيقيّين كما تُصنع الأشياء المتقنة: حرارة ووقت وبعض إعادة لما يتشكل في الداخل.
وأجمل ما فيها أنّها لا تطلب اعترافات واسعة إنما أفعالًا صغيرة:
أن تُصغي،
أن تفهم،
أن تتذكر،
أن تُقدّر،
أن تفكّر قبل أن ترفع صوتك
أن تعود للبيت بقلب يشبه البيت لا بقائمة أوامر وأن تعي ذلك وأن تكرره في نفسك قبل كلماتك.
وفي المقابل هناك نساء في مجتمعنا يقدّمن يوميًا دروسًا مذهلة في الاحتمال والبهجة والوقوف الصلب الصادق والصابر والألفة والطمأنينة.
نساء ينهضن قبل الجميع وينمن بعد الجميع ويخفين أوجاعًا حتى لا تنكسر روح طفل أو تتعب عزيمة زوج أو يبرد قلب أسرة.
هؤلاء لا يحتجن مدائح؛ إنّهنّ حضارة كاملة تمشي على قدمين كما أقول وأصف دائمًا.
نون النسوة هي ذاكرة وحياة الأسرة ونافذتها على الأمل والجنة والسبب في أن يظل المكان قابلًا للحياة مهما أشتدت الأيام.
وكل رجل منصف يدرك أنّه دون تلك النون يبهت العمر وتفقد الأيام روحها وتغيب الضحكة وتبقى الفوضى بلا يد وتُعيد ترتيبها بنعومة مدهشة.
في آخر الحديث فأنا لا أكتب عن النون التي تُدرَّس في كتب النحو أنا أكتب عن النون التي تنهض بمجتمع كامل عبر أفعال لطيفة متواصلة.
نون خفيّة…
غير أنّ أثرها يُرى في كل مكان فنراها:
في البيوت التي تتماسك
وفي الأبناء الذين يكبرون بأمان
وفي الرجال الذين يفهمون أنّ القسوة لا تصنع قوّة وأنّ الامتلاء بالاحترام والمحبة هو الطريق الأصدق.
هذه النون لا تشبه حرفًا عاديًّا؛ إنّها معنى.
معنى يمشي ويطبخ ويشرح ويسامح ويُحب ويُربّي ويعيد إلينا أنفسنا كلّما ضللنا أو ابتعدنا عن الطريق فهي أُنس وسكن وسكينة.
هي نون الحياة…
ولولاها لا شيء يكتمل.




