
السيد فاضل آل درويش
ورد عن أمير المؤمنين (ع): (الحلم عشيرة)( نهج البلاغة ج ٢ ص ٢٤٤).
كلمة موجزة ولكنها تحمل بين طياتها معاني السمو والتألق الإنساني في ميادين العلاقات الاجتماعية والبناء الأخلاقي، وما أعظمه من درس نتعلّمه ونستوعبه ونطبقه على نطاق الأسرة والبيئة الدراسية والمهنية والمجتمعية؛ ليسود تلك العلاقات الهدوء والقوة في وجه العواصف الانفعالية والحوارات الساخنة والمناكفات وأساليب الاستفزاز الممارَسة من قبل البعض، والتي تستدعي تهدئة وتبريدًا للأجواء الملتهبة قبل أن تنفجر وتتحوّل إلى خلافات ومشاحنات، وليس هناك من درع حماية للفرد أمام تغوّلات النفس الانفعالية كضبط النفس والحفاظ على الهدوء في العلاقات، وهذا ما يظهر فهمًا عميقًا لطبيعة النفس الإنسانية وتلك الأسس التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية والإنسانية عمومًا، فضبط النفس يحافظ على كرامة الفرد وهيبته وقِوام تربيته ويمنحه قدرة متينة على حضور قوي ومكانة اجتماعية لها احترامها وقيمتها.
ماذا يحدث للفرد حينما يستجيب كالأعمى لانفعاله ومشاعر الغضب بسبب استفزاز أو المرور بمشكلة معينة دون أن يضع في الحسبان الآثار ومجاري الأمور والأحداث بعد ذلك؟
بلا شك أنها صورة مشهدية لا خلاف حول نبذها ورفضها لما تلحقه بجميع الأطراف من آلام وصدمات عاطفية، وهذا ما يدعونا إلى الاتجاه خلف المنهج العقلي القائم على مبدأ حفظ الذات وتعلية مكانتها وتجنب كل الموارد المؤدية إلى ارتكاب النقائص والمعايب، والحِلم هو ضبط النفس والهدوء عند هيجان الغضب والتصرّف بعقل ورويّة بعيدًا عن التسرّع والتهوّر والانفعال الشديد والضرب في كل اتجاه كالثور الهائج، وبهذا المعنى فإن الحِلم ليس مجرد ردّ فعل واع عند الغضب بل هو ملكة نفسية تتكوّن بالتدريب وتكشف عن نضج عقلي وروحي وامتلاك إرادة صلبة لا تتأثر بنحو سلبي أمام أية كلمة مسيئة.
ويذكر لنا أمير المؤمنين (ع) إحدى مزايا وفضائل صفة الحِلم وهي تكوين درع حماية قوي في الوسط الاجتماعي بعيدًا عن أي فعل أو رد فعل تهوّري، فيقرّب (ع) لنا الصورة بما هو موجود في الثقافة العربية من وجود القرابة والأرحام والمقرّبين (العشيرة) التي تمنح الفرد قوّة وحماية وانتماء واعتبارًا اجتماعيًّا، وكذلك ضبط النفس يمكن أن يصبح للإنسان بمنزلة قبيلة كاملة تقف إلى جانبه ويوفّر للمرء حماية معنوية واحترامًا اجتماعيًّا يفوق ما تمنحه القوة المادية أو الروابط العائلية.
الإنسان الحليم محبوب بطبيعته لأنه لا يؤذي أحدًا ولا يُقابل الإساءة بالمثل، بل يملك القدرة على امتصاص التوتر وتحويله إلى أجواء هادئة يمكن من خلالها التفاهم والاستماع للآخر، فالاحترام الاجتماعي نوع من القوة يُعدّ أحيانًا أشد من القوة البدنية أو كثرة الأنصار، ومن دلالات القوة في الفرد الحليم هو أنه لا يمنح خصومه فرصة للإيقاع به أو تشويه صورته.
ولا تخفى على الجميع – ما هو مشاهد بالوجدان – أن كثيرًا من العلاقات تنهار بسبب كلمة غاضبة أو ردّ فعل متهور، بينما الحِلم يبقي الأبواب مفتوحة فيحفظ العلاقات ويُبقي على الاحترام المتبادل، وهذه القدرة على صون العلاقات الاجتماعية تعادل – في أثرها – قوّة عشيرة تحيط الإنسان بالرعاية.



