
عماد آل عبيدان
لم يكن السبعيني الذي كتب رسالته وتداولتها قروبات الواتس يبحث عن جدل، ولا أراد أن يصنع ضجة مع ازدحام الرسائل اليومية حيث أرسل كلماته كمن يضع كأس ماء أمام شخص يخفي عطشه عن نفسه. جمل قصيرة غير متعمدة الوهج وتشبه يدًا عجوزًا تربت بخبرة على كتف من يمر بتعب لا يعرف مصدره. كنت أقرأ تلك الكلمات وأشعر أن وراءها رجلًا يعرف طعم الزمن، رجلًا شرب من آباره الحلو والمر وتعلّم أن الإنسان لا يكتشف نفسه إلا بعد أن يجرب كل الطرق التي ظن أنها توصله إلى السكينة.
قال:
“كنا أغنى لما كنا فقراء…”
عبارة تبدو بسيطة ولكنها تحمل ارتجاجًا صغيرًا في الذاكرة، ارتجاجًا لا يسمعه إلا من عاش زمنين. لم يكن يتحدث عن المال ولا عن خزائن تُفتح فتدهش رائيها وسامعها إذ كان يشير إلى غِنى آخر. غِنى يشبه خبزة التنور العربي الذي تتشقق قبل أن يكتمل نضجه وتسبق رائحته كل التفاصيل. غِنى يسبق الحسابات ويتجوّل بين الناس كما يتجول النسيم في زرنوق ضيق.
تساءلت بيني وبين نفسي:
كيف يمكن لفقر كامل أن يتحول إلى نعمة؟
فتحت دفاتر الذاكرة التي تخصنا جميعًا الذاكرة برائحة وصوت ولمسة. وجدتُ أنّ الأمر لم يكن وصفًا لبيوت صغيرة ولا بكاء على حارات بالطين أو الجص إنما هو سرد عن قلوب كانت تختار بعضها بصدق دون أوراق ودون شروط ودون تلك الأرقام التي ترهق الأعراس اليوم قبل بدايتها.
في ذلك الزمن كان العرس يمتد أيامًا.
لا لأن الناس يملكون الكثير إذ كانوا يملكون ما هو أهم: المحبة والتآزر.
يكفي أن تسمع صوت أحدهم مرتفعًا في طرف الطريق فتتسابق الحارة “الفريق ” كلها وكأن الفرح والفزعة تستدعي أسماءها. لا أحد يتفقد حجم الوليمة ولا ترتيب الصحون ولا عدد كاسات الشراب. الفرح نفسه واللمة لا كأن الوجبة هي الأهم.
العروس كانت تضع سوارًا استعارته من جارة لا تملك إلا سوارين. ذهب يمر بين الأيدي كي تفرح فتاة واحدة وكأن الحارة كلها تصبح أمًّا لها. لا أحد يهتم إن كان السوار جديدًا أو به خدش صغير إذ يكفي أنه يحمل دفء يد صادقة.
أما أفقر رجل فكان يعيش في طرف الزقاق “الزرنوق”، في بيت يعرف زاوية زاوية. بيت صغير ولكنه يتسع لقهوة تُقدّم بلا تردد ولا تكلف وضيافة تخرج بلا انزعاج وضحكة تسبق الصوت. الباب من خشب قديم ولكن قلب صاحبه من معدن لا تنتجه مصانع الأرض.
كتب السبعيني:
“كانت جيوبنا فاضية لكن عقولنا ونفوسنا مليانة”.
فأصاب الحقيقة بوضوح لا يحتاج إلى تبرير.
الإنسان آنذاك كان يعرف حاجته ويكفيه ذلك. لا يطارد توقعات الآخرين ولا يقارن كل خطوة بخطوات الناس ولا يستدين كي يلحق بصورة لا تشبهه. كانت الحياة أخفّ والذهن أقل انشغالًا والقيم أقرب إلى الفطرة.
حتى رحلة شراء الخبز كانت حدثًا.
من يذهب للمخبز يعود بقصة أطول من طابور الانتظار.
الأحاديث تتناثر بين أبخرة التنور والضحكات تمتزج برائحة العجين ويعود المرء إلى البيت ومعه ما هو أثمن من الأرغفة: لحظة إنسانية تعيد ترتيب الروح ووهجها.
والعيد…
فرح خفيف بوقع كبير يتكئ على قطعة ملابس جديدة وقطعة حلوى تُخبّأ للأطفال وصباح يعرف الطريق إلى البيوت دون توجيه. البهجة كانت تأتي وحدها وتسبقها براءة الأطفال ويلحقها صوت الجارات وهنّ يباركن بكل محبة.
ومع كل هذا الصفاء لم يكن الماضي خاليًا من التعب.
كانت هناك قلة حيلة وسهر على طفل مريض ومشاوير تمشيها الأقدام بعناء ومشقة وأيام شحيحة في الموارد. رغم ذلك كانت النفوس تحمل تهذيبًا داخليًا يخفف كل خلاف ويصالح المتباعدين قبل أن تتضخم العقد.
غير أن في داخل كل هذه الحكايات توجد حقيقة علمية يخبئها العقل عن صاحبها:
الدماغ يميل إلى تضخيم اللحظات الجميلة وحذف المتاعب القديمة مع التقدم في العمر.
هذه الظاهرة تُعرف في علم النفس باسم:
Nostalgic Bias – انحياز النوستالجيا.
وهي السبب الذي يجعل الناس يرون الماضي أكثر صفاء مما كان عليه في الواقع.
ولكنها لا تنكر جماله ولا تجعل حنين الناس مجرد وهم إذ تشير إلى أنّ الماضي كان يحمل ما نفتقده اليوم: بساطة أعلى، قربًا اجتماعيًا أعمق، وضغطًا أقل بكثير.
اليوم تغيّر كل شيء تقريبًا
فالبيوت اتسعت والأرواح ضاقت.
الهواتف ازدحمت بالأسماء واللقاءات تقلّصت.
الوجوه ازدادت والحميمية تبخرت.
كل شيء يشبه ركضًا لا يعرف صاحبه لماذا بدأه أصلًا مع تسارع وتيرة الحياة والتطور.
ورغم هذا الازدحام تقف عبارة السبعيني مثل فانوس صغير يصرّ أن يضيء:
الثروة الحقيقية ليست خزينة ولا ورقة إذ هي راحة داخلية تجعل الإنسان يضع رأسه على الوسادة دون خوف يتسلل من نافذة الغد.
هذه الراحة هي ما غاب عن الناس.
تلاشت تحت تصاريف الأيام وتشابكات التفاصيل وتطلعات تثقل الروح.
لم يكتب السبعيني مقارنة بين زمنين، إذ كتب ليوقظ وعيًا نائمًا:
يمكن للإنسان، مهما ازدحمت حياته أن يجد طمأنينته متى خفف الحمل وفتح باب بيته للصداقة ومد يده بما يستطيع واقترب من الناس كما كان الأولون يقتربون بصفاء يرمم ما يهدمه التعب.
وفي نهاية القراءة أدركت شيئًا يشبه اكتشافًا صغيرًا:
السبعيني لا يشتاق للماضي وحده إذ يشتاق لنفسه القديمة، لنفس كانت تعرف النوم بلا قلق والضحكة بلا حساب والكرم بلا مشهدية.
وما لم يقله بشكل مباشر…
قاله بين السطور:
الإنسان لا يبحث عن زمن مضى إذ يبحث عن طمأنينة كانت تمشي بجانبه.
ومن يجد تلك الطمأنينة…
يمتلك أغنى خزائن الحياة
حتى لو خف ما في الجيب.




