
بشائر: الدمام
تمكن العلماء الصينيون من فك طلاسم التربة القمرية الغريبة التي عاد بها مسبار “تشانغ آه-6” من ذلك العالم الصامت على الجانب البعيد من القمر.
فبعد عودة المسبار بمهمته التاريخية في 2024، لفتت انتباه العلماء ظاهرة غريبة: تربة الجانب البعيد تبدو أكثر لزوجة وتكتلا من نظيرتها في الجانب القريب، وكأنها تخفي سرا جيولوجيا فريدا.
وقد جلبت بعثات جمع العينات السابقة، أبولو ولونا وتشانغ آه-5، مجتمعة ما يقارب 383 كيلوغراما من التربة والصخور القمرية من الجانب القريب للقمر، ما عزز فهمنا للتطور الجيولوجي القمري وخصائص الغطاء الصخري. إلا أن غياب عينات من الجانب البعيد قد حد من التحقيقات حول تركيبته الفريدة وتاريخه الجيولوجي.
وفي 25 يونيو 2024، أعادت بعثة “تشانغ آه-6” الصينية بنجاح 1935.3 غراما من التربة القمرية من حوض القطب الجنوبي، المعروف باسم “حوض القطب الجنوبي-أيتكين”، على الجانب البعيد من القمر، وهو أكبر وأعمق وأقدم هيكل تصادمي على القمر.
وبدت العينات المعادة “أكثر لزوجة قليلا ومتكتلة إلى حد ما” مقارنة بالمواد الناعمة والفضفاضة نسبيا التي جمعتها مهمة “تشانغ آه-5”.
ودفعت هذه الملاحظة الغريبة فريقا من معهد الجيولوجيا والجيوفيزياء إلى بدء رحلة بحثية استثنائية. ومن خلال سلسلة من التجارب الدقيقة، اكتشف العلماء أن هذه التربة تتميز بحبيبات أدق وأكثر خشونة، ما يجعلها تشبه التربة المتماسكة على الأرض في سلوكها. وعندما تعمقوا في التحليل، وجدوا أن السر يكمن في تفاعل معقد بين ثلاث قوى خفية: قوى الاحتكاك الطبيعية (وهي القوة التي تنشأ عندما يتلامس سطحان بعضهما مع بعض)، وقوى فان دير فالس الغامضة (وهي قوى تجاذب ضعيفة تنشأ بين الجزيئات الصغيرة جدا)، والقوى الكهروستاتيكية (قوى تجاذب أو تنافر تنشأ نتيجة للشحنات الكهربائية).
ومن خلال فحص أكثر من 290 ألف جسيم تربة بتقنية المسح المقطعي عالي الدقة، تبين أن هناك “نقطة حرجة” عندما يقل حجم الحبيبات عن 100 ميكرومتر، تبدأ هذه القوى الخفية في بسط نفوذها، مسببة ذلك التماسك غير المعتاد.
والعجيب أن عينات “تشانغ آه-6” سجلت رقما قياسيا في دقة الحبيبات، حيث بلغ متوسط حجمها 48.4 ميكرومتر فقط، وهي ليست أدق فحسب، بل أكثر تعقيدا في أشكالها وأقل كروية أيضا.
ويشرح البروفيسور “تشي شينغون” هذه الظاهرة الغريبة بقوله: “عادة ما تكون الحبيبات الدقيقة أكثر استدارة، لكن ما وجدناه في تربة الجانب البعيد يحكي قصة مختلفة. فهي تشبه قطعا صغيرة من الفن المجرد، تتشكل تحت تأثير بيئة قاسية لا نعرف عنها سوى القليل”.
ووراء هذه الأشكال الفنية الطبيعية قصة جيولوجية مثيرة، حيث يرجح العلماء أن السبب يعود إلى مزيج من عاملين: وفرة معادن الفلسبار الهشة التي تتكسر بسهولة، وتأثيرات العوامل الفضائية الأكثر قسوة على الجانب البعيد من القمر. وهذه العوامل مجتمعة تصنع ذلك المزيج الفريد من الحبيبات الدقيقة والخشنة، التي تزيد من قوى التماسك بين الجسيمات.
وهذا الكشف العلمي ليس مجرد حل لأحجية علمية، بل يفتح آفاقا جديدة لاستكشاف الفضاء. ففهم خصائص تربة الجانب البعيد سيمكننا من التخطيط بشكل أفضل لبعثات الاستكشاف المستقبلية، وبناء قواعد قمرية أكثر أمانا، والاستفادة المثلى من موارد القمر. إنها خطوة صغيرة على القمر، لكنها قفزة كبيرة للمعرفة الإنسانية.




