تعريف الحق بلسان الحق: سرّ الأسماء الإلهية في الآيات الأخيرة من سورة الحشر – الجزء الثالث والأخير

د. حجي الزويد
نواصل رحلة النور في تجليات هذه الأسماء النورانية المباركة.
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يُشرِكونَ هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [الحشر: ٢٢-٢٤]
في تفسير الأمثل:
” بهذه الصورة فإنّ هذه الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة اللّه، وتقودهم من درجة إلی درجة ومن منزل إلی منزل، حيث تبدأ الآيات أوّلا بالحديث عن ذاته المقدّسة، ومن ثمّ إلی عالم الخلقة، وتارة اخری بالسير نحو اللّه تعالی، حيث ترتفع روحيته إلی سمو الواحد الأحد، فيتطهّر القلب بالأسماء والصفات الإلهية المقدّسة، ويربی في أجواء هذه الأنوار والمعارف، حيث تنمو براعم التقوی علی ظاهر أغصان وجوده، وتجعله لائقا لقرب جواره لكي يكون وجودًا منسجمًا مع كلّ ذرّات الوجود، مردّدين معًا ترانيم التسبيح والتقديس. إنّ الآيات الأخيرة لهذه السورة- التي اشتملت علی قسم مهمّ من الأسماء والصفات الإلهية- آيات خارقة وعظيمة وملهمة، وهي درس تربوي كبير للإنسان، لأنّها تقول له: إذا كنت تطلب قرب اللّه، و تريد العظمة والكمال .. فاقتبس من هذه الصفات نورا يضيء وجودك.” (١)
وجاء في بعض الرّوايات أنّ”اسم اللّه الأعظم” هو في الآيات الأخيرة من سورة الحشر (٢)
في حديث آخر عن رسول اللّه صلّی اللّه عليه وآله وسلّم «من قرأ آخر الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر (٣)
وجاء في حديث آخر أنّه قال صلّی اللّه عليه وآله وسلّم:” من قرأ لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ .. إلی آخرها، فمات من ليلته مات شهيدًا” (٤)
يقول أحد الصحابة: سألت رسول اللّه صلّی اللّه عليه وآله وسلّم عن الاسم الأعظم للّه، فقال صلّی اللّه عليه وآله وسلّم: ” عليك بآخر الحشر وأكثر قراءتها. ” (٥)
حتّی أنّه جاء في حديث:”أنّها شفاء من كلّ داء إلّا السأم، والسأم: الموت” (٦)
” والخلاصة أنّ الروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة في كتب الشيعة و أهل السنّة، وتدلّ جميعها علی عظمة هذه الآيات ولزوم التفكّر في محتواها.
والجدير بالملاحظة أنّ هذه السورة كما أنّها بدأت بتسبيح اللّه واسمه العزيز الحكيم، فكذلك انتهت باسمه العزيز الحكيم، إذ أنّ الهدف النهائي للسورة هو معرفة اللّه و تسبيحه و التعرّف علی أسمائه وصفا ته المقدسة.” (٧) .
وهذه الفقرة الختامية التي تربط العرفان بالتطبيق العملي، لتكون دليلًا للسالكين إلى الله على خطى العارف الكبير الشيخ محمد علي شاه آبادي (قدس سره)، وتحت عنوان:
الطريقة العملية لتكوين ملكة الأسماء في القلب
إن “الملكة” التي أشار إليها الشيخ شاه آبادي لا تُكتسب بالتلاوة العابرة، بل تُنقش في باطن النفس عبر الاستمرار، والنية الصافية، واليقظة القلبية.
وفيما يلي خلاصة الطريقة التي أوصى بها أهل السلوك لتتحوّل الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحشر إلى نورٍ دائم في القلب:
1. التلاوة اليومية قبل النوم:
خصص لنفسك وقتًا ثابتًا كل ليلة قبل النوم، في سكونٍ تام، تقرأ فيه الآيات الثلاث بترتيلٍ هادئٍ متأمل، من قوله تعالى:“هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ…” إلى آخر السورة.
ردّدها بخشوعٍ وبصوتٍ خافتٍ تسمع فيه نفسك فقط، ثم تأمل معاني الأسماء التي تمرّ عليها كأنك تنادي بها ربك.
كرر التلاوة ثلاث مرات على الأقل، ولا تستعجل، فالمقصود الذوبان في المعنى لا سرعة الأداء.
2. استحضار الأسماء في النهار:
حين تبدأ يومك، اختر اسمًا واحدًا من هذه الأسماء لتتخلّق به في سلوكك:
• إن غضبت، فتذكّر “السلام”.
• إن واجهت ظلمًا، فتذكّر “العزيز الجبار”.
• إن رأيت جمالًا في الكون، فتذكّر “المصور البارئ الخالق”.
بهذا تتحوّل الأسماء من كلماتٍ إلى سلوكٍ حيٍّ فيك، وهو ما يسمّيه العارفون “تجلّي الاسم في الوجود الإنساني”.
3. الذكر القلبي أثناء السكون:
حين تجلس وحدك في لحظة صفاء،ضع يدك على صدرك وردّد في قلبك “هو الله” بهدوء، مراتٍ متتالية حتى تشعر بالسكينة تنتشر فيك. هذا الذكر البسيط هو مفتاح الملكة، لأنه يُعيد الوعي إلى مصدر النور، ويعلّم القلب أن الله أقرب إليه من نفسه.
4. تدبر الأسماء أثناء الصلاة:
اجعل كل ركعة من صلاتك ساحة تجلٍّ لاسمٍ من الأسماء:
• في الفاتحة يظهر “الرحمن الرحيم”.
• في الركوع “العظيم”.
• في السجود “الأعلى”.
بهذا تصير الصلاة رحلةً بين الأسماء، لا مجرد أداء حركاتٍ وألفاظ، وما الصلاة إلا معراج القلب إلى الأسماء الحسنى.
5. دوام الصلة في أوقات الشدة والرخاء:
اعلم أن الأسماء تتجلى في المواقف لا في العزلة فقط:
حين تبكي، هناك “اللطيف”.
حين تخاف، هناك “المؤمن”.
حين تضيع، هناك “الهادي”.
حين تُصاب، هناك “الشافِي”.
كل موقفٍ في الحياة هو مرآة لاسمٍ من أسماء الله،ومن فهم هذا السرّ عاش في حضورٍ دائمٍ لا يغيب.
6. المداومة حتى تصير طبيعة:
إن الاستمرار هو مفتاح الملكة،فمن واظب على هذه الآيات أربعين ليلة متصلة، وتأمل في كل ليلة معنى اسمٍ منها، صار اللسان يقولها، والعقل يفقهها، والقلب يذوقها، وحينها تتحول الأسماء إلى نَفَسٍ من أنفاس الروح.
فإذا ذُكرت يومًا بغير قصدٍ خرجت من قلبك بعفوية، كأنها أصبحت أنت، وأنت هي.
ثمرتها: أن تعرف الله بذاته:
حين تبلغ النفس هذه الدرجة، لا يعود ذكر الأسماء مجرّد عبادة،بل معرفةٌ مباشرة بالله من غير حجاب اللفظ.
وهذا هو المقام الذي عناه الشيخ شاه آبادي حين قال:
“فإنك إن أجبتهم بهذا بهتا وحارا، لأنه تعريف للحق بلسان الحق، لا بلسان الخلق.”
*سرّ الأسماء في رحلة الروح بعد الموت:
حين تنفصل الروح عن الجلد، تبدأ رحلة العودة إلى أصلها، إلى موطنها الأول الذي منه جاءت. وفي تلك اللحظة الفاصلة، لا ينفع اللسان بما حفظ، ولا العقل بما جمع، إنما ينفع القلب بما تشرّب من نور الأسماء الإلهية.
الشيخ محمد علي شاه آبادي (قدّس سره) كان يبيّن أن الإنسان إذا أكثر من تلاوة الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحشر حتى أصبحت ملكةً في روحه،فإن تلك الأسماء الحسنى تتحوّل إلى أنوارٍ ترافقه في البرزخ،
فتصبح الروح مطمئنة لأنها عرفت ربها معرفة الشهود لا السمع، وعاشت أسماءه في الوعي والوجدان لا في اللفظ فقط.
حين يسأل الملكان: من ربك؟
تُفتح أبواب الغيب، وتُسمع الإجابة لا من اللسان، بل من أعماق النفس:
“هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم…”
فيبهت الملكان؛ لأن الجواب ليس ترديدًا محفوظًا، بل تعريفٌ للحق بلسان الحق.
فمن جعل أسماء الله سكنًا لقلبه في الدنيا، نطق بها في الآخرة دون جهد؛ فهي قد صارت طبيعته الثانية، وصوته الداخلي، ولغته الأبدية.
الأسماء… جسور العبور بين العالمين:
الأسماء الحسنى ليست صفاتٍ لفظية فحسب، بل هي مراتب النور التي يتسلقها القلب في رحلته نحو الله.
فـ “الرحمن” يفتح باب الرحمة، و“السلام” يمنح الطمأنينة،
و“المهيمن” يحرس السالك من الضياع، و“القدوس” يطهّر البصيرة من كدر الدنيا، و“الحكيم” يكشف سرّ الابتلاء والمعنى في كل تجربة.
وكل اسم من هذه الأسماء إذا سكن في القلب صار مفتاحًا لبابٍ من أبواب القرب، حتى يصير العارف مرآةً تعكس تجليات الله في الخلق.
سرّ العبور:
حين تموت الجوارح تبقى الملكات الراسخة في النفس حيّةً فاعلة.
فمن كانت ملكته الذكر والحضور،استيقظ في البرزخ على أنوارٍ تملأ أفقه.، ومن عاش غافلًا عن ربه، استيقظ على فراغٍ لا يملؤه شيء. ولهذا قال العارفون: “القبر صورة القلب، فمن عمر قلبه بذكر الله، وجد قبره روضةً من رياض الجنة.”
حين تنادي الأرواح: يا سلام
تتنزل الأسماء في البرزخ كما تتنزل الملائكة في الدنيا،
فـ “السلام” يُظِلّ المؤمن، و“المؤمن” يُؤمّنه، و“الرحيم” يحتضنه، كأن الأسماء التي تلاها في الدنيا عادت لتصير ملائكته الحافظة.
فلا غربة بعد اليوم، لأن الروح وجدت ملامح خالقها في تلك الأسماء التي كانت تتلوها كل صباح ومساء.
رحلة الوعي إلى النور
كل من تشرّب الأسماء عاش في الدنيا بطمأنينة، ومات موتًا هادئًا لأن الله في قلبه كان حاضرًا، وقام في البرزخ وفي القيامة على نورٍ من المعرفة، يُسمّى عند العرفاء نور الشهود بالله في مراتب الأسماء.
وحين تنكشف الغشاوة، يرى أن كل ما مرّ به من ألم وفرحٍ وحرمانٍ وامتلاء، كان تربيةً من أسماء الله له، ففي المرض تعلّم اسم “اللطيف”، وفي الخوف ذاق “السلام”، وفي الخسارة أدرك “الغني”، وفي الدعاء وجد “القريب المجيب”.
نهاية الطريق… بداية اللقاء:
تتلاشى الحروف والأصوات، ويبقى في الوعي النور الخالص.
وهناك، حين يلتقي العبد بربه، لا يعرّف نفسه بعملٍ ولا بدرجة،بل بلسانٍ سكن فيه الحق فقال:
“هو الله الذي لا إله إلا هو…”
فهذه الكلمات لم تعد تلاوة، بل تحقّقٌ بالوجود الإلهي، والروح التي سارت في طريق الأسماء صارت جزءًا من النور الذي تصفه.
خلاصة السرّ:
من داوم على ذكر الأسماء الإلهية حتى صارت له ملكة، فقد فتح الله له باب الأنس في الدنيا، وباب النور في الآخرة،
فينطق عند السؤال بجوابٍ لا من نفسه، بل من نوره:
“تعريفٌ للحق بلسان الحق، لا بلسان الخلق.”
اللهم اجعل أسماءك الحسنى أنوارًا تسري في قلوبنا، وذكرك حياةً لأنفاسنا، ومعرفتك سكينةً لأرواحنا،حتى إذا نُودي علينا في دار القرار، أجبنا: هو الله الذي لا إله إلا هو…
هوامش:
١- تفسير الأمثل – شرح سورة الحشر
(٢) مجمع البيان، ج ٩، ص ٢٦٧.
(٣) تفسير نور الثقلين، ج ٥ ص ٢٩٣.
(٤) المصدر السابق.
(٥) المصدر السابق.
(٦) الدرّ المنثور، ج ٦، ص ٢٠١
(٧) تفسير الأمثل – شرح سورة الحشر




