أقلام

إدارة الأزمات في ضوء القرآن الكريم: أمّ موسى أنموذجًا- الجزء الأول

د. حجي الزويد

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧]

هذه الآية ليست مجرد مشهد تاريخي من قصة نبي، بل هي مدرسة يقين تُعلّمنا كيف يعمل القدر، وكيف يُربّي الله عباده على معارج الإيمان.

هذه الآية ليست حكاية من الماضي؛ إنها تُعلّمنا كيف نتعامل مع ضغوط الحاضر، وكيف نربي أبناءنا في عالم سريع، قاسٍ، متغيّر، مليء بالخوف والاختبارات.

إنّ هذه الآية من أعمق المواضع التي تتجلّى فيها العناية الإلهية، واللغة البلاغية، والعاطفة الإنسانية في صورتها الأصفى، فالله سبحانه يخاطب قلبًا أموميًا يموج بين النارين: خوفٌ ممّا سيأتي… وحزنٌ ممّا هو واقع.

نقف أمام سبع إشراقات روحية تُضيء القلب، وتفتح للروح أبوابًا من الطمأنينة.

أولًا : عظمة افتتاح الآية — «وَأَوْحَيْنَا».

«وَأَوْحَيْنَا»، الوحي أعلى درجات الخطاب الإلهي.

في الميزان: ” الإيحاء هو التكليم الخفي ويستعمل في القرآن في تكليمه تعالی بعض خلقه بنحو الإلهام والإلقاء في القلب كما في قوله: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحی‌ لَها».” (١)

وذكر صاحب الميزان: ” حتی إذا ولد موسی أوحی الله إلی أمه أن لا تخاف وترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون وجلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلی الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له وكان لا عقب له ولا يقتله ثم إن الله سيرده إليها. ففعلت كما أوحي إليها …” ((٢)

هذا الافتتاح يحمل رفعةً لشأن أمّ موسى، وإشارةً إلى أن ما ستُقدم عليه ليس مجرّد اجتهاد أمّ، بل توجيه رباني.

ثانيًا : «أَنْ أَرْضِعِيهِ» — أمرٌ في منتهى اللطف:

الخطاب يبدأ بما تهواه الأم، بما تطمئن به، بما ينسجم مع فطرتها.

يبدأ الخطاب الإلهي بالحنان، كأن الله يقول لها: قبل أن آخذك إلى الامتحان، سأملأ قلبك حبًا، لأن الحب هو الذي سيمنحك القوة.

إنّ في هذا التدرّج رحمةً بالإنسان في لحظات الاضطراب، وتربيةً على أن القرارات الكبرى تُبنى على سكينة، لا على انفعال. ومن أروع اللطف الإلهي أن يكون أول تكليف في لحظة الخطر هو عودة الأم إلى حضن الأمومة، ليكون قلبها أقوى على الطاعة.

هكذا يُربّي الله عباده، يُعطيهم ما يأنسون به ثم يختبرهم فيه.

أرضعيه، هذا أسلوب بلاغي يُسمّى “التمهيد العاطفي”.

فالقرآن يمهّد قلبها لأمر أشدّ قسوة سيأتي لاحقًا، وسنتناول هذا الجانب في موضوع مستقل.

ثالثًا : «فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ» — دقّة اختيار «إذا»

«فَإِذَا»، “إذا” تفيد التحقق والوقوع، أي أن الخوف سيأتي لا محالة.

ويتجلى هنا، إعداد نفسي، وتخفيف صدمة، وإخبار مسبق أن البلاء آتٍ لكنه مضبوط تحت السيطرة الإلهية، وفي هذا التعبير التقاء بين العلم الإلهي والمسار البشري.

ليس الخوف هنا طارئًا، بل مكتوبًا، ولكن وراءه حكمة، فالقلوب تُصقل بالخوف، ويُنشئ الله من خلال الاضطراب سكينة أعلى.

الله لا يريد أن يُربّي أجسادًا… بل قلوبًا، وقلب أمّ موسى يحتاج لجرعة من البلاء حتى يتهيأ للوعد القادم.

رابعًا : «فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» — قسوة ظاهرها رحمة باطنة:

هذا التعبير من أبلغ ما قيل في القرآن من حيث التضاد الشعوري؛ كيف يجتمع أمران متنافِيان: الأمومة و”الإلقاء”؟كيف يُجمع بين صدر الأم وعمق البحر؟

هنا تتجلى عظمة المشهد:

البحر — بمعتاده من الخطر والرهبة — يتحول بأمر الله إلى وعاء أمان، فاليمّ يتحول إلى مهد، والموج يتحول إلى حارس، والماء يصبح ملجأً للطفل من القتل.

هذا البيان القرآني يشير إلى قانون كوني، وهو أن الله إذا أراد شيئًا سخّر الكون كله لحمايته.

هذا الأمر هو أقسى ما يمكن أن يسمعه قلب أمّ، ومع ذلك حمله الله بعبارته، وسكّنه بوعده.

الابتلاءات التي تبدو كأنها تكسرنا، هي ذاتها التي تحملنا نحو ما لم نكن لنصل إليه إلا بها.

اليمّ هنا رمز: لعمق البلاء، ولعمق الرحمة، فالبحر بقدر ما يُغرق، فإنه كذلك يحمل من شاء الله أن يرفعه.

خامسًا: «وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي» — ثنائية البلاغة

من دقائق التعبير القرآني أن الآية الكريمة ﴿فَإِذا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخافي وَلا تَحزَني﴾ جمعت بين الخوف والحزن، ولكلٍّ منهما معنى خاص في البلاغة القرآنية:

معنى الخوف في الآية، ووجه الجمع بين النفي والإثبات

معنى الخوف

الخوف هو توقّع أمرٍ سيقع في المستقبل، فهو انفعالٌ نفسيّ يتعلّق بما لم يحدث بعد، ومن هذا الباب جاء قوله تعالى لأمّ موسى: ﴿وَلَا تَخَافِي﴾

أي لا تخافي عليه مما قد يقع بعد إلقائه في اليمّ، فلا تخشي غرقًا ولا ضياعًا ولا وقوعه في يد فرعون.

فالخوف المنهيّ عنه هو الخوف اللاحق للفعل.

وجه الجمع بين قوله تعالى:

﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾… ثمّ ﴿وَلَا تَخَافِي﴾؟

ليس بين العبارتين أيّ تناقض، بل هو *ترتيب دقيق لحركة النفس البشرية:

1. الخوف الأول: خوفٌ سابق للفعل

﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾

هذا الخوف هو سبب الإلقاء في اليمّ؛ أي إذا خفتِ عليه من بطش فرعون أو من القتل، فافعلي هذا الأمر العظيم الذي نأمركِ به.

2. الخوف الثاني: خوفٌ لاحق للفعل

﴿وَلَا تَخَافِي﴾

هنا يأتي الاطمئنان الإلهي: لا تخافي بعد أن تلقيه، فقد تكفّل الله بحفظه؛ فالخوف الأول مطلوب لأنه دافع للفعل،والخوف الثاني منهيّ عنه لأن الله تولّى أمره.

معنى الحزن ودلالته النفسية

أما الحزن فهو ألمٌ على أمرٍ وقع أو يحدث الآن. وفي لحظة إلقاء الرضيع في اليمّ، كانت أمّ موسى تعيش أشدّ لحظات الفقد، حيث يفارق حضنها، وينفصل عن صدرها، ويبتعد عنها إلى حيث لا تستطيع اللمس ولا الرؤية.

فقوله تعالى: «ولا تحزني» يعني: لا تحزني على فراقه حين تبعدينه عنك، ولا على بعده عن حضنك وحنانك؛ جاءت عبارة ﴿ولا تحزني﴾ مسكّنةً لذلك الألم الحاضر، لا الخوف المستقبلي. إنه حزن الفراق لا حزن الخطر، فهو ألم اللحظة، لا رعب الغد.

هنا تلتقي بلاغة الطباق مع بلاغة التكرار التوكيدي:الخوف من المستقبل، و الحزن على الحاضر والماضي.

فجاء نهيان يمسحان مسارين من الألم؛ لا تخافي مما سيأتي، ولا تحزني مما وقع.

ولذلك جاء الخطاب الإلهي ليقطع هذا الخيط الموحش من التوقّعات: ﴿ ولا تخافي ﴾.

أي: الاطمئنان الكامل إلى تدبير الله فيما لم يحدث بعد. وبهذا تُزال دائرة الهمّ كاملة، ويُطمس أثرها في قلب أمّ مفجوعة.

الترتيب النفسي بين الخوف والحزن

جاء الترتيب القرآني مطابقًا لطبائع النفس:

الخوف يسبق الفعل، لأن النفس تقلق مما سيأتي قبل أن تُقدم على خطوة كبيرة مثل إلقاء طفلها في اليمّ.

الحزن يأتي بعد الفعل، إذ تحزن النفس على ما فقدت بعد أن يقع الحدث بالفعل.

ولهذا جاء التنزيل الإلهي: ﴿فَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾.

فقدّم الخوف لأنه الأسبق زمنًا، وأتبعه بالحزن لأنه اللاحق في الشعور، فجاء الخطاب الإلهي على وفق حركة العاطفة الإنسانية، وهذا من دقائق الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم.

سادسًا : «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» — طمأنة ببلاغة الجملة الاسمية:

هنا ينتقل النص القرآني من خطاب عاطفي إلى خطاب وعد مؤكد، “إنا” توكيد، والجملة الاسمية التي تفيد الثبات والاستمرار، واسم الفاعل “رادّوه” الذي يفيد تحقق الفعل “إليكِ”، تقديم المفعول به لإفادة الحصر والاهتمام بأن موسى لن يعود إلى غيرك، ولن تضيع رائحته عن صدرك، ولن يفلت من يدك.

هذا من أرقّ التعبيرات الإلهية وأعمقها في تهدئة الأمومة المكسورة.

فسبحان من يكتب الوعد قبل الحدث، ويطمئن القلب قبل العاصفة، ويؤكد العودة قبل حدوث الغياب.

سابعًا : «وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» — البشارة العليا:

آيةٌ تعبر الزمن: من همّ الأم إلى يقين الرسالة.

بعد طمأنة الأم يعود النص إلى مصير الابن، لا في دنياه فقط، بل في رسالته، وهذا انتقال بلاغي من قلق الأم على حياة ابنها إلى قدر السماء الذي يمنحه الرسالة.

يسمى هذا الارتقاء بالحدث، والالتفات من الموقف الأرضي إلى المآل السماوي.

وهنا ذروة البلاغة: القرآن لا يطمئن قلبها بإرجاعه فحسب، بل يفتح لها بابًا رحيبًا لترى مستقبله فهو لن لن يعود فقط، بل سيعود نبيًا مرسلًا.

عندما يأخذ الله شيئًا منك، فإنه لا يعيده كما كان، بل يعيده أجمل، وأفضل، وأرفع قدرًا.

التدرّج العاطفي في الخطاب

ترتيب الجمل جاء متناسقًا مع حالة الأم النفسية:

1. أمرٌ محبّب: أرضعيه

2. تحذير نفسي: فإذا خفت عليه

3. الفعل الأصعب: فألقيه

4. تطمين مباشر: لا تخافي

5. محو الأسى: ولا تحزني

6. ضمان قاطع: إنا رادّوه إليك

7. بشارة كبرى: وجاعلوه من المرسلين

هذا التدرّج بلاغيًا يُسمّى “مراعاة مقتضى الحال” بأعلى درجاته، وهذا ” التدرج الشعوري” من أرقى أساليب القرآن.

كيف تُعلّمنا أمّ موسى إدارة الخوف واتخاذ القرار؟

يتجلّى في هذه الآية الشريفة معنى دقيق من معاني رحمة الله وتدبيره، وهو أن الله سبحانه قد يقدّر على عبده بعض المشاقّ والأحزان ليهيئ له من بعدها فرحًا أعظم ونعمةً أكبر، أو ليصرف عنه شرًّا أعظم مما تحمّله.

فقد ابتلى الله أمَّ موسى بحزنٍ شديد وبلاءٍ مرير، حين أمرها أن تُلقي رضيعَها في اليمّ، ولكن هذا الابتلاء نفسه كان الطريقَ إلى طمأنينةٍ أوسع، وفرحٍ أكمل، ونعمةٍ أعمق حين أعاده الله إليها آمنًا مطمئنًا، ورفع شأنه وجعله من المرسلين.

وهكذا يجري قدر الله: يبتلي ليرفع، ويأخذ ليُعطي، ويُحزن لحكمةٍ تُثمر سرورًا أعظم.

هذه الآية مدرسة في إدارة الخوف–اتخاذ القرار–التعلق–التسليم–التربية–والصمود النفسي.

إنها تحمل قواعد نفسية لو طبّقها الإنسان لزال عنه نصف ما يعيشه من قلق واضطراب.

وتضع بين أيدينا درسًا خالدًا: أن الله قد يفتح باب البلاء ليُدخل منه أبوابًا من النعمة لا تُحصى، ويُخرج من رحم المحنة هدايات لا تنقطع.

هوامش:

(١) تفسير الميزان – القصص: ٧

(٢) تفسير الميزان – طه: ٣٨

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى