أقلام

تراث الأحساء والتحولات الحديثة

طالب البقشي

يمثل التراث الحضاري أرثًا تاريخيًّا يبرز ملامح الهوية الثقافية للمجتمعات والأمم. وفي عصرنا الحديث يواجه التراث تحديات جديدة في ظل التقدم التكنولوجي، قد تؤدي إلى اندثار الكثير من مظاهره مما يتطلب مواكبة هذه التحولات العصرية، وفهم المتغيرات التي تؤثرعلى معالمه، التي منها تطور وتوسع دخول الألة والتطور الصناعي والتكنلوجي في غالبية الصناعات والحرف اليدوية وأنحسار ما كان يحترفها الأنسان من مشغولات يدوية، ودخولنا في مرحلة التحول الرقمي والذكاء الأصطناعي التي تتيح أنتاج صناعي يتفوق على عمل الإنسان الحرفي.

من جانب أخر يتأثر التراث بالتحولات الحديثة في المجتمعات المعاصره في أنحاء العالم من خلال التفاعل بين معالم التراث والمواقع التاريخية والطبيعية وبين التنمية والتحديث المعاصر للبنية التحتية للأوطان، وقد تؤدي هذه التطورات الحديثة إلى تغييرات جذرية في المشهد العمراني والحضري.

وتؤثر التحولات الاقتصادية والاجتماعية إلى تغير في أنماط الحياة وبعض العادات والتقاليد، مما يسبب هجر الكثير من الأيادي العاملة المحلية من مزاولة أنشطة وأعمال الحرف اليدوية وتزايد معدلات اندثار العديد من الحرف التراثية.

فمن الحرف التقليدية التي تأثرت من التحولات المعاصرة وتلاشت في الأحساء أو كادت أن تختفي بسبب التغيرات المجتمعية والصناعية حرفة عمل المنسوجات التي لا تُمارس اليوم وحرفة الندافة وصناعة الفخار فقد كانت الأحساء مركزًا لصناعة الفخار خاصة الجرار القديمة، مثل جرة الحب والمبخر. ومع ذلك فإن الصناعة لم تعد بالزخم السابق نفسه، فهذه المهن لم تعد منتشرة كما كانت في السابق. وحرفة صناعة الجلود المحلية، وهي مهنة شبه مندثرة في الوقت الحالي، وحياكة المشالح اليدوية، والحدادة، والنحاسة، وصناعة السيوف، والخرازة ” صناعة الأحذية التقليدية، ” وحرفة المليف وصناعة الخوصيات من سعف النخيل كسفر الطعام والمراوح والسلال والقفاص، التي تراجعت بشكل كبير، وحرفة عمل الإمداد وهي عمل المفارش التي كانت تستخدم لفرش المساجد والمجالس.

ومن الألعاب الشعبية التي تناقصت شعبيتها في الأحساء مع تطور الحياة، بعض الألعاب القديمة التي لا تزال جزءًا من الذاكرة الشعبية مثل لعبة “الغميضة” أو “الغمّة” من الألعاب الشعبية التي تعتمد على الاختباء و”ركوب الخيل” حيث يركب الأطفال عودًا من سعف النخيل، ولعبة “العنبر” يلعبها فريقان من الأطفال يتنافسان على إعادة بناء علب مبعثرة بعد رميها من فريق آخر، ولعبة “القب” التي تستخدم فيها عصاتان حيث يضرب الشخص بالعصا الصغيرة العود الكبير ويبعده، ثم يحاول الشخص الآخر إعادته إلى مكانه الأصلي.

ولحفظ التراث في الأحساء فقد أولت الجهات الرسمية أهتمامًا بالغًا بالتراث أظهر تناغمًا في العلاقة بين تراث الأحساء والتحولات الحديثة كأنموذج ناجح في التوازن بين الحفاظ على الهوية الثقافية الأصيلة والاستفادة من فرص التنمية الاقتصادية والسياحية التي يوفرها العصر الحديث.

والجمع بين الأصالة والحداثة في مبادرات ومشاريع تنمية لتكون الأحساء وجهة سياحية بارزة، وتطوير المرافق والخدمات، مع الحفاظ على أصالة التراث والموازنة للحفاظ على تراثها في ظل هذه التحولات، ويشمل صيانة المواقع الأثرية وقصورها التاريخية وتطوير الأسواق الشعبية مثل سوق القيصرية، وتطوير البنية التحتية مع الحفاظ على نظم المياه التقليدية كعيون المياه، حيث تعمل هيئة تطوير الأحساء وأمانة الأحساء على مشاريع للحفاظ على المواقع التاريخية وتأهيلها، وتعزيز السياحة المستدامة.

ويبادر هواة ومحبو التراث في الأحساء بإنشاء متاحف ومراكز تراثية خاصة، ومراكز تدريب للحرف اليدوية مثل مركز النخلة للصناعات الحرفية للحفاظ على المقتنيات الأثرية، وإحياء الحرف المندثرة، وإحياء الحرف اليدوية التقليدية وتوظيفها في مجالات الإنتاج المعاصر، مثل تصميم منتجات سياحية مبتكرة وتطوير دورالأسرة المنتجة في إنتاج المشغولات الحرفية اليدوية.

وتتمثل أحدث الطرق المبتكرة حديثًا لحفظ التراث ومواكبة هذه التحولات العصرية استخدام التكنولوجيا الرقمية بإنشاء قواعد بيانات وتطبيقات ثقافية، وتوثيق التراث صوتيًا وبصريًا كما يمكن إحياء التراث عبر إشراك المجتمع في الفعاليات والورش الثقافية وإقامة مبادرات أحياء الأعمال الحرفية، واستخدام الفنون المعاصرة كالمسرح الجوال والواقع الافتراضي.

وتوثيق التراث رقميًّا يلازمه تحويل التراث المادي مثل المباني والنقوش وغير المادي مثل التقاليد والفنون إلى صيغة رقمية للحفاظ عليه وأحياءه بالطريق الرقمية الحديثة وتوفير الوصول إليه وذلك باستخدام تقنيات مثل المسح ثلاثي الأبعاد والتصوير الجوي، والمسح بالليزر، والتصوير الفوتوغرافي عالي الدقة لإنشاء سجلات رقمية دقيقة قابلة للوصول والبحث وتقديم المعلومات عن المواقع التراثية من خلال تقنيات مثل رموز الاستجابة السريعة (QR Code).

ومن الأفكار الحديثة في مساحة التكنلوجيا الرقمية التي يمكن استخدامها لحفظ تراث الأحساء وإحيائه بناء “قرى تراثية افتراضية” تُدار بالذكاء الاصطناعي وهي قرية افتراضية كاملة يسكنها حرفيون رقميون ورواة تراث يتحدثون ويشرحون حياة الأجداد.

كما يمكن إنشاء موقع أفتراضي يتضمن “كتاب التراث الحي” وهو كتاب رقمي وثائقي يتغير تلقائيًا مع تجدد المعلومات ويجمع العادات والحرف والقرى والعيون القديمة ويتغير باستمرار بتحديثات قادمة من الرواة للتراث والمؤرخين والباحثين والمهتمين، وهذه التقنيات الرقمية تعزز الوعي المجتمعي وتعرف الأجيال الجديدة بمكانة التراث الثقافي والوطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى