
د. حجي الزويد
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧]
نواصل رحلة التأمل في أبعاد هذه الآية الشريفة في جزئها الثاني.
في هذه الآية الكريمة من قصة أمّ موسى، لا نقف أمام حدثٍ تاريخي عابر، بل أمام مرآةٍ كبرى تعكس مسار الإنسان في الحياة. فهذه القصة، التي تجري أحداثها بين روحٍ ترتعد خوفًا، ويمٍّ يموج بالرعب، ووعدٍ يهبط من السماء، ليست مجرد مشهدٍ في الماضي، بل خريطة نفسية وتربوية لكل أبٍ وأمّ، ولكل إنسان يتقلّب بين الخوف والرجاء، وبين القلق والطمأنينة، وبين الفقد والعودة
بين الخوف والوحي: قراءة معاصرة في مشهد أمّ موسى
في هذه الآية الكريمة من قصة أمّ موسى، نقف أمام مشهدٍ لا يخصّ الماضي وحده، بل يمتدّ إلى حياة كل أمّ وكل أب وكل إنسان في هذا الزمن المضطرب. إنها آيةٌ تُعيد تشكيل رؤيتنا للابتلاء، وتعيد ترتيب علاقتنا بالخوف، وتكشف لنا كيف يمكن للإنسان أن يعيش في عالم سريع، مليء بالتحديات، ومع ذلك يبقى قلبه ثابتًا بوحي القيم والإيمان.
فكلمة «وَأَوْحَيْنَا» ليست مجرّد حدثٍ تاريخي، بل رمزٌ لتلك البوصلة الداخلية التي نحتاجها اليوم؛ البوصلة التي لا يصنعها الإعلام، ولا تشكّلها ضغوط المجتمع، ولا تغيّرها تقلبات المزاج، بل تنشأ من عمق الإيمان، ومن قيم مستقرة، ومن فهمٍ صحيح للحياة والهدف. في عصر تتداخل فيه الأصوات، وتتزاحم فيه الأفكار، ويكثر فيه الناصحون والموجّهون، يصبح وجود “وحي داخلي” — أي ضمير واعٍ، وبصيرة هادئة — ضرورة نفسية وتربوية.
حكمة الوحي في مواجهة المخاطر: دراسة في قول الله «أن أرضعيه»
ثم تأتي الكلمة الرقيقة: «أَرْضِعِيهِ». هذا أمرٌ فيه حنان الأمومة قبل قسوة التكليف. وهو درس تربوي بالغ المعنى:
ابدأ بالرحمة قبل الأمر، وبالاحتواء قبل التوجيه، وبالحنان قبل الانضباط؛ فالأطفال اليوم، وسط عالمٍ سريع ومشتت، يحتاجون إلى أحضان تطمئنهم قبل تعليمات تقوّمهم، وإلى عاطفة تحميهم قبل قواعد تضبطهم. التربية ليست سلسلة أوامر؛ إنها علاقة شعورية تبني القلب قبل أن تُصلح السلوك.
الأنموذج القرآني في التعامل مع الخوف: أمّ موسى مثالًا
ثم يأتي الامتحان: «فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ». هذا الخوف الذي يسكن قلب كل أمّ منذ لحظة الولادة.
الخوف من المرض، الخوف من الفقد، الخوف من المستقبل، الخوف من المؤثرات، الخوف من المجتمع، الخوف من التكنولوجيا التي دخلت كل غرفة وكل يد.
الخوف هنا ليس ضعفًا، بل جزءٌ من هندسة فطرة الأمومة. وقد جعل الله هذا الخوف دافعًا للحماية، لا عائقًا عن النمو.
إنه يعلّمنا أن المشاعر السلبية ليست كلها مذمومة؛ بعضها وقودٌ للحكمة.
ولكن الذروة تأتي حين يقول الله: «فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ».
هذا القرار القاسي، الذي يتجاوز حدود المنطق البشري، يشبه في زماننا تلك اللحظات التي يضطر فيها الأبوان لإطلاق أبنائهم في الحياة:
حين يدخل الطفل المدرسة وهو ما زال متعلقًا بأمه، حين يذهب المراهق ليختار مساره، حين يسافر الولد للدراسة، حين يختار الابن قراراته الخاصة، حين نترك أبناءنا يجربون، ويسقطون، ويقومون… لأن النمو لا يحدث في الحضن، بل في التجربة. ولأن الحماية الزائدة لا تمنع الألم، بل تمنع النضوج.
أجنحة الوعد: كيف يرفع الله القلوب حين تنكسر؟
ثم يتدفق البلسم الإلهي: «وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي».
إنها جملةٌ تعالج كل القلق الذي يعانيه إنسان اليوم:
الخوف من المستقبل، الحزن على الماضي، القلق من القرارات، الندم على الأخطاء، التردد أمام المسارات،
والخوف من الفشل. كأن الله يقول لنا: ما دام الأمر خرج من يدك إلى يدي، فلا تخافوا من الغد، ولا تحزنوا على اليوم، وما دام الأمر يجري بقدرٍ كتبته لك، فلن يضيع منك شيءٌ إلا لخيرٍ، ولن يُنتزع منك إلا ليعود أفضل.
ثم يأتي الوعد العظيم: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ». وهذا الوعد هو سرّ يقين المؤمن في كل زمان.
نحن اليوم نفقد أشياء كثيرة: نفقد أشخاصًا، فرصًا، علاقات، صحة، استقرارًا، طمأنينة، أحلامًا، وتوقعات.
ولكن هذه الآية تعلمنا قانونًا ربانيًا: ما يكتبه الله لك لن يأخذه أحد، وما يغيب عنك سيعود إليك في الوقت الذي يختاره الله، وقد يعود وقد ارتفع شأنه وارتفعت أنت معه.
وأخيرًا تتحول القصة إلى ذروة روحية: «وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».
الله لا يعيد ما فقدته كما كان… بل يرفعه درجات.
هكذا تعلّمنا الآية أن الابتلاء ليس مجرد اختبار صبر، بل هو عملية بناء ورسالة وإعداد. إنها تقول لكل إنسان: أصعب المراحل تسبق أعظم المنح، وأقسى اللحظات تصنع أجمل القصص، وما يبدو لك خسارة اليوم… قد يكون بداية رسالتك غدًا.
البعد النفسي والإستراتيجي في توجيهات القرآن لأمّ موسى:
وهكذا تصبح قصة أمّ موسى مرآة لواقعنا: نخاف… ثم نرمي قلوبنا لله، نبتلى… ثم نصبر، نحزن… ثم نهدأ، نفقد… ثم يعود ما فقدناه وقد صار أعظم، ونمضي في رحلة الحياة حاملين رسائل لم نكن لنبلغها لولا تلك اللحظات التي ظننا أنها ستكسرنا، فإذا بها تصنعنا.




