أقلام

ملاذ آمن

السيد فاضل آل درويش

العلاقات الإنسانية ساحة تفاهم وتحاور وطلب حصول الأمان والطمأنينة الاجتماعية، ومن الخطأ أن نحوّلها إلى ساحة عراك وتشاحن وتبادل المشاعر السلبية بعد أن يفلت عقال النفس المنضبطة وتشتعل الانفعالات المتفلّتة، بسبب مواقف ساخنة ترهق الطاقة النفسية لكل واحد منا ولا تعود عليه إلا بالمتاعب وتقطّع الصلات الأسرية والاجتماعية ، وإذا كانت تلك العلاقات محطات البحث عن الاستقرار النفسي والوجداني وتحقيق أفضل أشكال التواصل، فإن البعض يجعلها مساحة لإثبات تفوقه الفكري ونبوغه وتميّزه بالقدرات الخارقة، في مقابل ذلك يعمل جاهدًا على تخطئة الغير وبيان عدم مجاراتهم لعلياء مكانته، وحينئذٍ تتحول العلاقة من مجال للدعم والمساندة والتفاهم والانسجام والاستقرار إلى ساحة صراع غير مرئي يتبادل فيه الأطراف الضرب تحت الحزام واللكمات النارية، مما ينهكهم ويستنزف احتياجاتهم العاطفية العميقة والإحساس بالمقبولية والانتماء الاجتماعي.

العلاقات الإنسانية النبيلة لا تقوم على مبدأ المقارنات واشتعال المشاعر السلبية وتسرّب الكراهيات المستحكِمة، كما أن البراعة الفكرية حق مشروع يطرح فيه الفرد ما يحمله من رُؤى ووجهات نظر ويعمل على تعميق البرهنة عليها وتسويقها، ولكن الخطأ يكمن في إلغاء الطرف الآخر و اعتبار الوسط الاجتماعي ساحة لإثبات الوجود وإلغاء الغير.

والصواب أن العلاقات الاجتماعية أرضية نشيّد عليها بناء مساحة آمنة نشعر فيها بالقبول والانتماء، ويجد فيها الآخر ظلّا يقيه القلق والسكن الآمن الذي يحتويه دون شروط، فالقيمة الحقيقية للعلاقة لا تكمن في أن يدهش أحدهما الآخر ويجذبه بمظاهر الاقتدار والإبداع عنده، بقدر ما تكمن في أن يمنحه الإحساس بأن وجوده بحد ذاته يكفي ويتقبّل وجوده دون البحث والنظر في بعض النقاط السلبية التي لا تخفي النقاط المشتركة الكثيرة بينهما وجمال أخلاق الآخر وتصرفاته الحسنة وصدق محبته له، فما نحتاجه ليس المزيد من الكلام الباهر ولا الانتصارات الوهمية في النقاشات المبسوطة لاستعراض مختلف الآراء بغض النظر عن القناعة بأي رأي منها، بل تلك الطمأنينة الدقيقة التي يزرعها شخص واحد في قلوبنا فقط بكونه قريبًا وينسج وجدانيًّا مساحة الشعور بهموم وآمال الآخر، نحتاج إلى وجود يشبه الراحة وإلى حديث يشبه المأوى وإلى علاقة تجعلنا نشعر أن العالم أقلّ صخبًا مهما علت أمواج رياح الزمن العاتية، فهناك من نلجأ إليه لتخفيف همومنا واستعادة الأرضية الثابتة للخُطى المستقبلية.

الإنسان منذ طفولته يحتاج إلى وجود شخص يمنحه شعورًا ثابتًا بالأمان العاطفي، ليتمكّن من استكشاف العالم دون خوف، ومع التقدم في العمر لا يختفي هذا الاحتياج بل يتخذ أشكالًا أكثر نضجًا، فنبحث عن أشخاص يكون حضورهم ملاذًا، فالعلاقة الصحية هي التي تعطي الفرد مساحة لأن يكوّن نفسه بلا تصنّع، وتسمح له بأن يضع أقنعته جانبًا ويتعامل بكل أريحية بما يحمله من أفكار وسلوكيات، وهذا النوع من العلاقات يخلق أساسًا صلبًا للنمو النفسي؛ لأن الطمأنينة تفتح الباب أمام الإبداع والقدرة على اتخاذ القرار والاستقرار الداخلي وتجنب بؤر التوتر والقلق المستحكِم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى