
عبد الكريم النمر
قبل أكثر من ألف عام، خرجت هذه العبارة من قلبٍ يشبه الوحي.
واليوم، تُعيدها أمُّ نور على لوحة صغيرة في وسط بيتها، تكتبها بخطٍّ ترتجف فيه الذكريات والرجاء.
لتقطفها بطلتُنا نور الشخص فيما بعد، وتجعلها عنوان كتابها الأول.
جملة واحدة، ولكنها زرعت في قلب طفلتها صبرًا أعظم من الألم، وصنعت من نور حكايةً تشبه المعجزة.
لكن… من أين نبدأ الحكاية؟
هل نبدأ من نور، التي صنعت المعجزة بخطواتها المدهشة؟
أم نبدأ بمن ألهمَ أمَّ نور تلك الكلمات المباركة؟
أم نكشف الستار مباشرةً عن البطل الخفي في الفيلم… الأم،
التي لم تظهر في الكاميرا، ولكنها حملت الحكاية كلّها على كتفيها؟
صادف الخميس الماضي اليومَ العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة،
الذي يوافق يوم 3 ديسمبر من كل عام… وهو يوم عالمي أقرّته الأمم المتحدة منذ عام 1992 لدعم ذوي الإعاقة.
ويهدف هذا اليوم إلى زيادة الوعي بقضاياهم، وضمان حقوقهم، والتعريف بإنجازاتهم.
أُقيمت مئات الفعاليات حول العالم، وأُنتجت عشرات الأفلام، وكان من بينها فيلمٌ قصير في مدّته، كبير في محتواه، من إعداد الفاضلين: فاضل الشعلة وهاجر التاروتي.
وكان الفيلم يدور حول قصة… بل معجزة طفلة وُلِدت وهي تحمل على كتفيها أول معارك الحياة.
نقصُ أكسجين في لحظة الولادة سرق منها سلام الجسد، وتركها أمام طريق مليء بالعثرات… طريقٍ لم يكن يُتوقَّع أن تخطو فيه خطوة واحدة بلا عون.
الفيلم بعنوان: “ما رأيتُ إلّا جميلًا”.
عنوان فيلم فاضل، وعنوان كتاب نور، وعنوان امرأة خَلَّدها التاريخ.
فمنذ أكثر من ألف عام، وقفت امرأةٌ لا يشبهها أحد، امرأة ظلّ التاريخ يتهامس باسمها كلما مرّ البلاء على قلوب الناس.
امرأة رأت ما لا يحتمله بشر:
رأت إخوتها وأبناءها وأهلها مقطّعين بالسيوف، رأت الشيوخ بلا رؤوس، والشباب بلا أيادٍ.
رأت أطفالاً سحقتهم الخيول فامتزج لحمهم بالرمال.
رأت الدماء تملأ الأرض، والأيادي والأرجل مقطّعة متناثرة في كل مكان، ورأت السماء تكاد أن تقع على الأرض…
ثم أُسرت… وأُهينت… وضُربت… وذاقت من الألم ما يكسر الروح قبل الجسد.
وبعد كل ذلك، لمّا سُئلت:
كيف رأيتِ صنع الله في أخيكِ وأهل بيته؟
رفعت رأسها إلى السماء وقالت بثبات يصعب تفسيره… عبارة أدهشت الزمان:
“ما رأيتُ إلّا جميلًا.”
لم تكن كلمةً عابرة، بل كانت مفتاحًا ودواءً ودرسًا يعلّمنا أن البلاء ليس نهاية، وأن الألم والمرض قد يكونان بابًا لمعجزة لم نرها بعد.
بعد قرونٍ طويلة، وقفت أمُّ نور في وسط بيتها لتكتب تلك العبارة، لتكون المفتاح والدواء والنور الذي يضيء لابنتها طريقًا كان يعتقد الكثيرون أنه مغلق.
كتبتها وهي تعلم أن هذه الكلمات ليست حبرًا… بل سُلّمٌ ستصعد به ابنتها، ونافذة سترى منها ما لا يراه الآخرون، وقنديلٌ يضيء طريقًا لم يكن أحد يتوقع أن يُضاء.
وهكذا، تقف زينب هناك… وتقف أمّ نور هنا…
وبينهما خيطٌ رقيق من الإيمان،
يمتد من كربلاء إلى بيتٍ صغير،
ليصنع معجزة جديدة.
كبرت الطفلة نور، لا كما يكبر الآخرون، بل كما تنمو الأشجار في صخور الجبال: ببطء، بوجع، لكن بثباتٍ لا ينكسر.
كانت تتعثّر كثيرًا… ولكنها كانت تقوم أكثر.
وفي حين كان الناس ينظرون إليها بعين الشفقة، كانت أمُّها تنظر إليها بعين أخرى:
عينٌ ترى القدرة في الروح قبل الجسد، وتؤمن أن المعجزات ما تزال ممكنة… حتى في أيامنا هذه.
تلك الطفلة لم تكن وحدها.
كان هناك قلبان كبيران يحيطان بها:
قلبٌ يشبه الجبل في صبره، وآخر يشبه البحر في سعة عطائه.
أمٌّ وقفت خلف كل خطوة، خلف كل محاولة، خلف كل سقوط ونهضة.
تمسك بيدها في الصباح، وتمسك بقلبها في المساء.
وكان هناك أبٌ شجاع، مثابر، صابر… رجل يضع قوته في صمت، ودمعته في الغيب، وابتسامته في وجه ابنته حين تقول له: «أقدر… بس ادعُ لي».
فيرد عليها بقلبه قبل صوته: لن يخذلكِ الله ما دام دعائي ودعاء أمكِ يسندكِ.
وكأنّ ابتسامته تهمس لها:
امضي… فقلبي معكِ قبل خطواتكِ.
رجلٌ يحمل العالم عن ابنته دون أن تشعر، يُخفي دموعه في الليل، ويُهديها نهارًا يقينًا بأنها ستصل مهما طال الطريق ومهما صعُب.
كبرت الطفلة… وشيئًا فشيئًا صار المستحيل ينحني لها.
تعلّمت، تعثّرت، سقطت، ثم قامت كما لو أنها وُلدت لتُثبت للعالم أن العجز ليس نهاية… بل بداية جديدة.
وحين دخلت الجامعة، لم تكن تحمل كتبًا فحسب، بل كانت تحمل تاريخًا من الصبر، ودروسًا من تلك العبارة التي رافقتها كل يوم.
ومع السنوات، لم يكن إنجازها أن تعيش كما يعيش الآخرون… بل أن تسبق توقّعات الجميع.
أتمّت الجامعة حاملةً شهادتها كما يحمل المنتصر راية معركة خاضها وحده… بينما الحقيقة أنها خاضتها بثلاثة قلوب.
ألّفت كتابها الأول، وكان عنوانه: “ما رأيتُ إلّا جميلًا ”.
وتقول نور في الفيلم:
«اخترتُ عنوان ما رأيتُ إلّا جميلًا، لأني أؤمن أن كل جانب مظلم في الحياة… هناك جانب نور.»
العبارة التي أُلهمت بها أمُّها، وكانت الدواء والنور الذي أضاء لها الطريق.
واليوم، تقف نور أمام حلمٍ جديد: الماجستير، ثم الدكتوراه.
حلمٌ يبدو كبيرًا على جسدٍ مُتعب، لكنه صغير جدًا أمام روح تعلّمت ألا تعرف المستحيل.
وتقول نور:
«أريد أن أكون مؤثّرة في المجتمع، حتى أغيّر نظرتهم عن ذوي الاحتياجات الخاصة.»




