أقلام

ولا تُسكنّي الهاوية 

السيد فاضل آل درويش

في ساحة الاعتراف والتألُّم من الواقع السيء وارتكاب الآثام تنكشف الحقائق والمآلات في يوم القيامة، فهذا التحسّر ليس مجرد يقظة آنية تنسكب فيها الدموع ثم سرعان ما تنقشع سحابة الخوف وتتبدّد، ويعود المرء إلى ما كان عليه من جهالة وغفلة تأخذه بعيدا عن رحمة الله تعالى، بل هي وقفة تأمُّل جادة يبتغي منها الخلاص من السوء الذي وصل إليه ويطلب النجاة بالاستظلال بالرحمة والمغفرة الإلهية، وليس هناك من وسيلة تربوية تهذّب النفس وتزكيها كالصدمة وكشف المصير القاتم الذي ينتظر العصاة المصرّين على انحرافهم وسلوكهم المشين، فالبصيرة ترمي بنظرها إلى أقسى وأبعد مراحل الانحطاط الأخلاقي والمصير والجزاء العادل له وهو الهاوية، وما أدراك ما الهاوية ؟!

الهاوية تعبّر عن أبعد درجات العقاب الإلهي في يوم القيامة و أشدّها قسوة وألمًا، وما ذاك إلا تعبير واضح عن غاية الانحراف والممارسات القبيحة المنهية عنها في الدين الحنيف والعقل الواعي، فالإنسان المكرّم في عقله يسعى به نحو العلياء والتكامل والترفّع عن مستنقع الأفعال القبيحة وأدران النفس الأمارة بالسوء، وأما النفس المشبعة بالأهواء تسير به نحو قعر الهاوية شيئًا فشيئًا حتى تُظلم نفسه من كل خير وتنقطع عنه سبل النجاة، ويمثّل قعر الجحيم الذي يُلقى فيه من بلغ الغاية في الانحراف عن الحق ويستند هذا التصوّر إلى أنّ النار درجات، وأن أسفلها مخصّص لمن اجتمعت فيهم صفات التكذيب والجحود بآيات الله تعالى وآلائه والظلم البالغ منتهاه على مستوى النفس والآخرين، ويُقدّم وصف الهاوية بما يعكس عمق المعنى الروحي للعقاب، حيث تنفصل فيها النفس عن أسباب النجاة وتعيش حالة سقوط أبديّ لا قرار لها.

الهاوية تشير إلى المقر الأبدي لمن استجاب لهواه دون ارتداع وانزجار حتى داهمته المنية بغتة، كما أنها توصيف لحالة من الانقطاع الكلّي عن الرحمة الإلهية وسوء الحال والمنقلب بعد التجرؤ على محارم الله تعالى، فالهاوية مرحلة تشير إلى أبعد نقطة وصل إليها الإنسان العاصي الذي مارس في حياته كل ما يحلو له دون زاجر له، فضميره واقع تحت التخدير وفي سُبات طويل فيصل بصاحبه إلى أبعد نقطة يصل إليها الإنسان حين يرفض الهداية الإلهية التي تُعرض عليه، ويأبى كل الإشارات التحذيرية له بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى والكف عن طريق الممارسات الخاطئة، فيتخذ الضياع والانسلاخ عن الفطرة والقيم الأخلاقية طريقًا ومسارًا حتى يصل إلى أقصى درجات السقوط وهي الهاوية، فتوزيع الدرجات في النار نابع من عدل الله تعالى بنيل العصاة الجزاء، فكلّ دركة تعبّر عن مستوى من فساد النيّة والسلوك لا بمجرد ارتكاب المعاصي، بل هو استمرار في خط التجرّؤ على المحرمات والوصول إلى أعلى درجات ومراحل القسوة الروحية والابتعاد عن الحق والفضيلة، وتتجلّى الرحمة الإلهية ببعث التحذيرات والتوجيهات بالتنبيه على السقطات بأفظع درجاتها وهي الهاوية، وذلك لأخذ الحيطة من الانزلاق في طريق الخطايا وذلك بيقظة الضمير ومحاسبة النفس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى