أقلام

تقليب الحياة  بيضة وجسد ونمط حياة

عماد آل عبيدان

لم ألتقط الفكرة من كتب ولا من موروث محفوظ في الذاكرة جاءتني من مشهد صغير في مزرعة ابن عمّي من رف تلك الفقاسة إذ يهتز بزاوية مدروسة “بزاوية 45 درجة صعودًا ونزولًا ” من بيضة هادئة تتقلّب دون أن تدرك أن سر سلامتها كله معقود في هذا الميل الخفيف الذي يتكرر. كنت أستمع لشرح بسيط منه عن الفقّاسات عن حرارة تضبط وعن هواء يجري وعن رطوبة تُحسب وعن حركة تتكرر كي لا يلتصق الجنين بجدار واحد فيضعف أو يختنق في جهة واحدة من الحياة. في تلك اللقطة الصغيرة اتسع المشهد وامتد المعنى وانفتح باب من الانبهار والدهشة على مصراعيه.

عدت إلى الآية وكأني أقرؤها بعين أخرى: ونُقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال (الكهف 17). فجأة خرج اللفظ من جلاله القرآني إلى تفاصيل الجسد إلى سرير المريض إلى الجسد الذي إن طال به الثبات على وضع واحد تبدل جلده واشتكى لحمه وظهرت القروح كرسائل احتجاج لا تخطئها العين. الجسد الذي يطلب الحركة طلبًا غريزيًا لا يحتمل الإنتظار كأن الخلايا ذاتها تدرك أن البقاء في جهة واحدة يشبه الوقوف الطويل عند باب مغلق.

ثم تعود الصورة إلى البيضة تحت جناح الدجاجة إلى ذلك الانحناء الصغير الذي لا يراه كثيرون إلى منقار يحرك وريش يقلب وغريزة تؤدي مهمتها دون درس مسبق فسبحان من ألهمها ذلك.

أمٌّ لا تعرف قوانين الفيزياء ولا جداول الرطوبة ولا دورات الهواء ومع ذلك تقوم بالعمل بأدق من أفضل آلة. كل حركة تصنع توازنًا وكل ميل يحمي حياة وكل تكرار يحمل معنى النجاة.

وفي المنتصف يقف الإنسان محمولًا بين آيتين: آية تُتلى وآية تُرى. تقليب في نومه وتقليب في همومه وتقليب في أقداره. كأن الرسالة واحدة في الجسد وفي البيضة وفي مسار الأيام: الجهة الواحدة لا تصنع سلامة والاستقرار المطلق يحمل في جوفه شرخًا خفيًا لا يظهر فورًا. الحركة ترد العافية والتبديل ينعش المعنى والتقلب يحفظ التكوين من العطب.

شرحت هذا لابنتي الكبرى وكانت العيون الصغيرة من حولها تسير خلف الفكرة كمن يسير خلف خيط من نور. ضحكتُ ونحن نتحدث عن البيض وعن الدجاجة التي لا تعرف أنها تؤدي درسًا في الحكمة وعن أجساد تتقلب فوق أسرة المرض وعن يد خفية تدبر كل هذه التفاصيل الدقيقة دون أن تغفل عن ذرة. في تلك اللحظة لم يكن الحديث درسًا مدرسيًا كان حكاية حية لها ريش ولها جلد ولها نبض ولها اتساع في التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى.

ما أعجب أن ترى القاعدة ذاتها تتكرر في كل شيء فنجدها في الجنين الذي لم يرَ الدنيا في المريض الذي أثقلته الدنيا في اليد التي تحرك البيضة وفي الآية التي تحرك القلب.

لا شيء يترك في جهة واحدة لأن الميلان قانون بقاء والتبديل باب سلامة وتقليب الحال طريق خفي نحو الاتزان.

ومن هنا يتسع المعنى إلى ما هو أبعد من الجسد والبيضة. في الأفكار نحتاج هذا التقلب وفي المشاعر وفي العلاقات وفي نظرتنا إلى الخسائر والمكاسب.

الفكرة التي تحبس في زاوية واحدة تتخشب والمشاعر التي تضغط في جهة واحدة تتقرح والعمر الذي يسير على خط واحد بلا التفات ينهكه الغبار والأتربة. الحركة هنا ليست اضطرابًا هي ترتيب آخر للسلامة.

في مشهد صغير داخل مزرعة وعلى سرير أبيض داخل مستشفى وفي آية تفتح بابًا للدهشة والانتباه والانبهار والتفكر اجتمعت كل هذه الخيوط في عقد واحد.

إدراك بسيط في شكله شديد العمق في أثره يكشف أن بعض صور النجاة لا تأتي في هيئة قرارات ضخمة تأتي في هيئة ميل خفيف يحفظ الجنين وفي حركة تحمي الجسد وفي التفاتة تمنح الروح مسارًا آخر تتنفس فيه الحياة من جديد.

هكذا خرجت من الحديث وأنا وكلي رضا واعتقاد وتبصر أن الدجاجة تؤدي درسًا في الفقه الكوني والبيضة تعلم معنى العناية والجسد يكتب اعتراضه على الثبات والآية تظل مفتاحًا لكل هذا الاتساق. مشهد واحد يكفي كي يذكرنا أن الخالق سبحانه وتعالى لا يخلق ولا يصنع شيء عبثًا وأن أدق التفاصيل تحمل آثار الرحمة وأن التقلب في جوهره ليس قلقًا كما يظن البعض فهو الضمان الأعمق لاستمرار الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى